06-أبريل-2025
كاريكاتير لـ ألكسندر شميدت/ روسيا

كاريكاتير لـ ألكسندر شميدت/ روسيا

حين تُطلق رصاصة واحدة، لا يُقتل شخصٌ واحد فقط، بل تُزهق معها عوالم بأكملها.

ليس القتل لحظة صاخبة في مشهد دموي، بل هو صمت طويل يهبط على العالم بعد أن تنطفئ حياة.

الرصاصة، تلك القطعة المعدنية الصغيرة التي لا عقل ولا قلب لها، لا تعرف وجهتها، لكنها تعرف وظيفتها جيدًا: هي تُنهي وتمحو. هي تُقصي إنسانًا عن الوجود، لا من الحياة فقط، بل من ذاكرة المستقبل.

لا تُطلق الرصاصة من البندقية، بل من لحظة الاختيار. اللحظة التي قرر فيها أحدهم أن ينتزع آخر ذرة من إنسانيته ويستبدلها بجلمود حقد في صدره، هي قرار أكثر من كونها أداة، قرار بأن يُلغى إنسان.

تمرّ الرصاصة أولًا عبر الذاكرة قبل أن تصل إلى الجسد، تعبر الرصاصة خلال ماضي الضحية، تخترق صور الطفولة، والأصوات الدافئة، ولمسة الأم، وأول دمعة فرح، وأول انكسار، تخترق أيضًا قائمة الهدايا في الأعياد، والشوارع التي عُلّقت فيها الأحلام، والأغاني التي كانت تُرافق القلب. كل لحظة من تلك الحياة تُطوى قبل أن تُكمل دورتها، فكلّ إنسان مكتبة، وكل رصاصة تحرق كتابًا فيها.

لا تكتفي الرصاصة باختراق كل معاني وذكريات وجسد الضحية، بل تمرُّ على الأرواح التي تُجرَح بصمت أو تذبل، أب يُقصَف من الداخل، وزوجة تترك في الفراغ، وأصدقاء يفقدون جزءًا من هويتهم

لا تكتفي الرصاصة بإلغاء ما مضى بل تُسقط ما بقيَ في الحاضر، كوب القهوة الذي لم يُكمل، الرسالة التي لم تُرسل، الاتصال الذي لم يُرد عليه، لحظات عادية كانت تُمارس دون وعي بأنها الأخيرة، الضحكات العالقة، والعبارات في منتصف الحديث، والخطوات التالية في الطريق.

كل هذه تُقتلع من جذورها، لتُخلّف حفرة في زمن لم يُكمل جملته.

الضرر الأكبر أن الرصاصة تقتل وتجهض ما لم يولد بعد: مشاريع كبرى، وقصص حب، وأبناء لم يُنجَبوا، ولقاءات لم تُرتّب بشكل كامل، ونجاحات لم تأخذ حيزها من الاحتفال. كلّ الأحلام المؤجلة تُسحب من مسارها، وتُلقى في العدم. كيف لنا أن نحتمل فكرة أن رصاصة واحدة قد تُسقط دراسة جامعية كاملة أو قصة حب، أو عائلة بأكملها أو مستقبلًا كان سيُكتب؟

لا تكتفي الرصاصة باختراق كل معاني وذكريات وجسد الضحية، بل تمرُّ على الأرواح التي تُجرَح بصمت أو تذبل، أب يُقصَف من الداخل، وزوجة تترك في الفراغ، وأصدقاء يفقدون جزءًا من هويتهم. لا تموت الضحية وحدها، بل يأخذ الموت رهائن معه لا يُحصَون.

لا يُولد الإنسانُ فردًا، بل شبكة من العلاقات وكيانًا متصلاً بعشرات الأرواح، وحين يُقتل، تُقتل تلك الروابط، وتصبح دوائر الأسى تتسع في صمت.

كلما تكررت مشاهد الموت أصبحت الحياة أرخص.

نعتاد النشرات، نمرّ على أسماء الضحايا كما نمرّ على إعلانات الطقس. تُصبح الرصاصة حدثًا مألوفًا، ونفقد الحساسية تجاه أكبر الجرائم: إلغاء إنسان! ولهذا فإن أسوأ ما يصيب الإنسان ليس الموت بحد ذاته، بل اعتياده على رؤيته من حوله. حين تصبح الدماء تفصيلًا صغيرًا نفقد القدرة على الغضب، والرعب الحقيقي ليس في الرصاصة، بل في برود المتلقي.

من الذي أعطى الرصاصة هذا الحق؟ هل الرصاصة مسؤولة؟ أم الذي أطلقها؟ أم الذي صنعها؟ أم المجتمع الذي اعتاد اختراقها للأجساد؟ من الذي قرر أن الحياة يمكن أن تُلغى بسحب إصبع؟

ومن يعيد الاعتبار "الدنيوي" لكل من سُلبت منهم الحياة، لا بالضرورة لأنهم كانوا في مرمى الهدف، بل لأنهم كانوا ببساطة في مكان لا يغرب فيه المجرم والقاتل، ألغى حياتهم بناءً على "رغبة".

وعند إعادة تعريفنا لها، هي ليست أداة بل رمزًا للغياب، للوحشية، للفقد.

وعلى هذا كله، فإن ما يُميت حقًا ليس الرصاص المنهمر في الواقع وعلى الشاشات معًا، بل قدرتنا المروّعة على التعايش معه.