مئة شهادة وشهادة حول شوقي أبي شقرا.. حوار الأجيال عن شاعر مؤسس

لم تكن يومًا عمليّة ترتيب الشهادات الفكريّة والرومنطيقيّة والعلميّة تجاه شخصيّة أدبيّة أو سياسيّة أو اجتماعيّة معروفة تقليدًا أو محطّ اتّباع لدى العرب تحديدًا، إلى أن دخلنا في منطلق الحداثة وفلك الرأسماليّة وعالم الترويج، وجعل كلّ مادّة قابلة لأن تكون نقطة رواج أو تسويق، لكنّ الحال اليوم يختلف مع تجربة شوقي أبي شقرا أحد مؤسسّي قصيدة النّثر العربيّة كما يسمّي نفسه ويسمّيه معظم النقّاد. وأحد المنوّرين للحركة السرياليّة الشعريّة التي تتجاوز بطبيعتها العقل والوعي القائم نحو فضاءات اللاوعي وارهاصاته وإشاراته المادّية أو الفكريّة، لهذا يأتي كتاب " شوقي أبي شقرا – مئة شهادة وشهادة " الصادر حديثًا عن دار النهار ليجمع شهادات من مثقفين وشعراء وكتّاب ونقّاد وروائيين من مختلف الأعمار والمستويات الثقافيّة والمجالات الابداعيّة؛ كانوا على معرفة تامّة بالشاعر من الناحية الشخصيّة أو محبّين لتجربته الشعريّة، ليكون الكتاب بمثابة حوار غير مباشر بين الأجيال حول تجربة شاعر مؤسس.

فضاء لكتابات تشبه أصحابها

الكتاب الذي عمل على إعداده عائلة الشاعر الراحل وصديقه الصحفي والشاعر عقل العويط، شكّل فضاء يعبّر كلّ مبدع وأديب فيه عن رؤيته وشخصيّته تجاه الأديب الراحل، دون أن يكون هناك وحدة معايير أو مسار كتابي يؤطّر التجربة في مسار محدّد، وهو ما جعل المساهمين يتناولون التجربة من مختلف الزوايا وبأساليب متنوّعة.

"شعر شوقي شعر صعب، هذا ما لا بد من تسجيله نحن الذين خدعنا بُرهان أيّ شعراء الساطع.

ولد شوقي تحت برج العاصي. ومنذ دخوله الشعر عاكس التيار، بهدوء ولطف لم تشهدها معاكسة من قبل، وبوداعة خادعة، وعفوية أعجزت محلّليها، فاتهموه تارة بالزيف المتنكّر، وطورًا بالتصنّع، وإمّا هي محض دفق من الخيال والرهافة والتفرّد المفطور على الابتكار.

منذ دخوله الشعر وهو هكذا: سحابات من المشاهد الخلابة، تقف على طرفي نقيض مع كل ما يُكتب شعرًا ونثرًا في لبنان والعالم العربي.

إنّه أغرب الشعراء.

العالم في الخارج تقوم قيامته، وهو يبني مملكة لأسهم الألفاظ النارية.

العالم في الخارج تقوم قيامته، وهو يصطاد الصور بشبكة خياله السعيد الحظ، على شاطئ اللغة العربية". (أنسي الحاج)

"لــه قماشــة مختلفــة عــن كل شــعراء مجلــة "شــعر" ويتحــدث بلغــة تشــبه لغــة الأطفــال والمجانـيـن والحشاشـيـن، تنتظـره مـن الـشرق فيأتيـك مـن الغـرب. ســاخر وكاريكاتــوري، وفيــه شيء مــن غرابــات ســلفادور دالي" (نزار قبّاني).

"نـما شـعر شـوقي أبي شـقرا كمـا ينمـو الطفـل وكـما تنضـج الثمـرة، وتتعاقـب كمـا تتعاقـب الفصـول مـن داخـل تحوّلاتهـا. قصيدتـه تعلـن نفسـها بعُريهـا وقامتهـا وبتحرّرها. قصيدتـه تبحـث عـن نفسـها داخـل نفسـها، داخـل مخزونها، داخـل زمنهـا الخـاص، داخـل سـؤالها الخـاص.

إنـه شـاعر الصدمـة والدهشـة. شـعره فعـل وجـودي بغرابتـه وألفتـه وقربـه. هنـا بالـذات تكمن وظيفـة القصيـدة التـي يمارسـها بمعنـى وبهـدف، كمـا الرسـام الّـذي يرسـم لذاته، حيث متعـة الكلمـة لا تقابلهـا مجـدانيّات جاهـزة أو مقارنـات عقيمـة.

تجربتـه تمثّـل اسـتقلال العزلـة لا الانعـزال؛ مثـل تجربـة تتحـرّر مـن التبعيـات، مبتكـرًا لغـة شـعريّة خاصّـة ومستقلّـة عـن التيّـارات الشـعريّة الجاهـزة، بعـيدًا عـن البلاغـة الفارغـة أو الرومنطيقيـة السـائدة". (بول شاوول)

"يتابع شوقي أبي شقرا تجربتَه التي كُلّما تقدّمت في المغامرة ازدادت عمقًا، وامتلكت أدوات الأسلوب الناجز للعناصر المفاجئة التي تجعل من الكتابة أفقًا للأسلوب الذي يكرّ قوانينه وميزاته، ويتجاوز نفسه في استمرار.

يكفي أن تتكوّن في القصيدة علامات من عيش الطفولة والنضج والحلم في آنٍ واحد، ليكتمل نسيج القول الأقرب إلى الهشاشة، إلى عذوبة المعنى الأوّل وصفائه، كما يرتسم في المزاج الحاد والوعي الذي يداعب اليقظة بالتخييل.

قد يكون الشاعر الوحيد، منذ "ماء إلى حصان العائلة"، الذي لم يحمل نصّه الشعريّ المزاعمَ الرؤياويّة والرسوليّة التي بدت لفترة طويلة وكأنّها مملكة الشعر الوحيدة. فالمعنى الذي يتشكّل في القصيدة هو توتّرٌ، لا ادّعاءٌ أو خفوت، إنما يؤدّيه الحذفُ الذي يخلّص الجملة الشعريّة من أيّ كلامٍ فائض.

لذلك لا يتصل القول أحيانًا ولا يكتمل في العبارات المتلاحقة التي تنقل المعنى بين احتمالات لا نهائية، أو يخضع أحيانًا لرغبةٍ مطلقةٍ في التغريب.

تجربةٌ تحيا وتستمرّ في غبطة العيش، في الاختبار المؤجَّل واللذيذ، لأن تكون حياةً هنا، الآن، في الكتابة قبلها وبعدها". (بسام حجار)

خرج الكتاب من منطق تكريس إبداء الرأي لأصحاب التجارب الشعريّة والنقديّة العتيقة، بل اتجه نحو الشباب الذين يقرؤون الشعر بلغة وعيون نقديّة مختلفة

نلاحظ من خلال هذه الشهادات أنّ كل شاعر اتّخذ من أسلوبه منبرًا للتعبير عن نفسه أوّلًا داخل تجربة شوقي أبي شقرا الشعريّة. وثانيًا نظرتهم وخلاصاتهم تجاه هذه التجربة، وبالتالي يكون النتاج قد عكس هويّة الشاعر من زوايا متعددة وأظهر هويّة مبدعين آخر يتحاورون حول تجربته بشكل غير مباشر ويعبّرون عن أنفسهم كذلك.

تعدّد الاجيال داخل قصيدة أبي شقرا

خرج الكتاب من منطق تكريس إبداء الرأي لأصحاب التجارب الشعريّة والنقديّة العتيقة، بل اتجه نحو الشباب الذين يقرؤون الشعر بلغة وعيون نقديّة مختلفة، أتاحت للقارئ أن يكون على علم بوجودهم وجهودهم ومحاولة فرض أنفسهم كمؤثرين على الساحة الثقافيّة.

"أتذكّر شوقي أبي شقرا وأعود إليه كلّ يوم. "ماء إلى حصان العائلة" رفيقي في وحشتي. تمثّل تجربة أبي شقرا تجاوزًا لمركزيّة العقل، وللفكرة القائلة بثبات الحداثة؛ بل هي دعوةٌ إلى استمرار الحداثة الشعريّة في مسارها الجامح نحو تعدّد أشكال المعنى والدلالة". (محمود وهبة)

"تجربته تشبه النبيذ الذي ينتمي إلى عددٍ من الندماء، لكنها لا تصلح لأن تكون تجربة المجموع، بل هي تجربة الأفراد الذين لا يكفّون عن البحث عن المعنى أو عن الطريق المؤدّي إليه". (نبيل مملوك) 

"شوقي، بطلي الخارق، حين كنتُ في أمسِّ الحاجة إلى بطلٍ صادقِ الغرابة، قواه الخارقة كانت تجعلني أبتسم بابتسامة الطفولة. هو الذي ألمع الضوء بعيدًا، كي أركض بعيدًا، وخلفي الدنيا". (جو قارح)

تدخل هذه الشهادات ضمن إطار التلاقي بين الأجيال والتعبير عن قراءات مختلفة بين الجيل النقدي السابق والجيل الحالي، وهي انعكاس أيضًا لما كان الشاعر يتوسل إليه عند كتابة كل مقالة أو قصيدة، وهو التحفيز على خلق المعنى والبحث عنه وعدم الاكتفاء بالقراءة المباشرة، خصوصًا فيما يتعلّق بتعدّد الدلالات داخل القصيدة وما يحيط بها من ظروف.

رسم الكتاب خريطة طريق للتعرف إلى تجربة لشاعر لطالما اعتبر نخبويًّا، ليثبت القيّمون على الكتاب أن الشعر عمومًا وتجربة شوقي أبي شقرا خصوصًا قابلة للتأويل وللكتابة بلغات وأفكار وذهنيات متعدّدة.