10-ديسمبر-2020

كاريكاتير لـ بارت فان ليوين/ هولندا

في كل مرة يبادر فيها الأسد إلى إلقاء خطبة في رهط من أنصاره أو مريديه، يصرّ على أن يقدم لنا نفسه بمظهر الشخص الموسوعي العارف بكل شيء، فمن تمظهره بمظهر رجل السياسية العارف بخبايا الرجال وطموحاتهم السلطوية، إلى تمظهره بمظهرعالم الأناسة العارف بأثر الثقافة على سلوك البشر ومعتقداتهم. كل ذلك دون أن يفوته الظهور بمظهر المتفلسف، صاحب المخيلة العجائبية القادر على أشكلة قضايا الوجود البشري، على نحو يجعل منها قضايا قابلة للحل أو للفهم على نحو خلاق لم يسبقه إليها أحد.

يستميت الأسد على إقامة الحد الفاصل بين المؤمن الحق والمؤمن الزائف، استنادًا على قاعدتي البراء والولاء الفقهيتين

في مشاركته مشايخ مؤسسته الدينية لقاءهم الدوري، الذي دأبت وزارة الأوقاف على إقامته سنويًا في جامع العثمان بدمشق، عاد الأسد إلى سيرته الأولى، منظرًا دينيًا يستميت على إقامة الحد الفاصل بين المؤمن الحق والمؤمن الزائف استنادًا على قاعدتي البراء والولاء الفقهيتين، ثم كمنظر لغوي يستميت على حصر الفرق الجوهري بين الإنسان والحيوان استنادًا لموقفه من العقائد الدينية وتبنيه لها.

اقرأ/ي أيضًا: مرض القصر الجمهوري

يعذب الأسد مستمعيه إذ يتفلسف، ذلك أنه لا يؤشكل القضايا (لا يهتدي إلى حلها) على النحو الذي يلجأ إليه الفيلسوف في حله لمشكلة التنوع إزاء الواحد (وجود عدد كبير من الأحصنة المختلفة ضمن عالم الأحصنة) عبر ردها إلى المثال (الصفات المشتركة بين جميع الأحصنة) كما في نظرية المثل الأفلاطونية. ولا بإزالة التعارض الحدي بين ضدي ظاهرة ما، عبر نفي إحدى طرفي التناقض وتثبيت الآخر، على النحو الذي نراه في فلسفة هيراقليطيس التي تصر على إدخال عامل الزمن عند المباشرة بدراسة أو معاينة أي ظاهرة إجتماعية، عبر مسارعتها على نفي مفهوم الثبات، وإحلالها لمفهوم التغيير كمفهوم وحيد في الفهم أو التفسير.

في تفلسف الرجل لحل مشكلة التعارض القائم بين أفكار المنادين بتدريس مادة التربية الأخلاقية باستقلالية عن مادة التربية الاسلامية، الذين يصرون على اعتبار أن الأخلاق الإسلامية هي مصدر كل إرهاب وتطرف، وأفكارالمنادين بتدريسها عبر التربية الإسلامية دون غيرها من المواد الأخرى، ذلك أن الإسلام برأيهم هو الضامن الوحيد لكل محبة وسلم أهليين، كما أنه الضامن الروحي لردع أي مؤمن من التمرد على ولي أمره، عبر تذكيره الدائم بضرورة الأخذ بقاعدة "الولاء للمتغلب" الفقهية.

لم ينحز الأسد لفكرة أصحاب المذهب المديني للأخلاق، ولا لفكرة أصحاب المذهب الديني لها، بقدر ما سعى لاظهار الجانب الإلغائي في مسعى منه لإظهار قدرته التحليلة في التفكيك والتركيب العقليين، كل ذلك دون أن يخرج علينا بتركيب هيغلي جديد من كليهما، ذلك أنه ظل عاجزًا على ما يبدو عن فهم علاقة الأخلاق بأختها الحرية. فعندما تكون الحرية الشخصية هي الضامن للسلوك الأخلاقي، فكل ممارسة أخلاقية يقوم بها الآخرون تصبح عندها مفهومة ومعقلنة، حتى لو لم نكن طرفًا فيها أو كان لنا موقف مغاير منها، فحرية المثلية الجنسية هي سلوك أخلاقي مقبول ما دامت ممارسته المثلية لا تلحق بي أي أذى ممكن.

إضافة لعجزه عن فهم علاقة الأخلاق بالحرية، فقد كشف الرجل على عاجز مقيم عن فهمه للعلاقة الجدلية القائمة بين الأخلاق وطبيعة النظام السياسي. فكيف له أن يطالب رجالات مؤسسته الدينية بالنزاهة والصدق، وعدم التهرب الضريبي والامتناع عن قبول الرشوة كما الانخراط في الفساد العام، ونظام السياسي يشجعهم على تبني تلك القيم، كما يحثهم بالعمل على تبريرها وتعميمها اجتماعيًا عند الناس، لا لكونها تسهل على المنتفعين داخله، عملية الحصول على الغنائم اللصوصية عبر آلية الجهاز الحكومي وحسب، بل لكونها تصب في خدمة التوجه الأمني القائم على إفساد أخلاق الناس، إلى الدرجة التي تمنع عليهم التفكير حتى بتغيير هذا النظام الفاسد.

عندما تكون الحرية الشخصية هي الضامن للسلوك الأخلاقي، فكل ممارسة أخلاقية يقوم بها الآخرون تصبح مفهومة ومعقلنة

يتقن الأسد لغة المفاهيم على نحو كبير، فهو أقرب للسفسطائي الذي يتعامل مع الحقائق من زواية فهمه الذاتي الخاص، لا من زواية الطبيعة الموضوعية للحقيقة كما يبرهن عليها أو يقرها العقل. ففي معاقرته للممارسة الفكرية، لا يقيم الرجل كبير قيمة للأفكار بحد ذاتها من حيث هي صادقة أو كاذبة، على النهج الذي يسير عليه المثقفون والفلاسفة والمنظرون الجذريون، ذلك أن صحة الأفكار أو فعاليتها لا تأتي عنده من منطقها الداخلي بل من مدى قربها أو بعدها في تحقيق مصالحه الشخصية المتأتية من الهيمنة السياسية. فالمؤمن لديه ليس ذلك الكائن العقائدي الذي يستميت في قرن القول والفعل، كما لو كانت ممارسة تعبدية، بل ذلك الشخص الذي يزواج من غير وجه حق بين طاعته الإلهية لربه وطاعته الدنيوية لولي نعمته، على النحو الذي يسهل عليه القبول والتسليم بامتهان كرامته الشخصية، دون أن تبدر منه أية شكوى أو تظلم أو احتجاج على ذلك. أما المؤمن الذي يطالب بحقوقه السياسية، الراغب بعلاقة تشاركية مع حاكم لا يقيم اعتبارًا لا لشراكة ولا لقسمة عادلة، فهو بنظره ليس أكثر من مؤمن آبق، غارق في أوحال الطائفية والسلفية الوهابية، ومن ثم الأخوانية، الذي لا يمكن التعامل معه إلا بلغة التطهير القائمة على المحو؛ محو أفكاره وجسده معًا.

اقرأ/ي أيضًا: أوهام تصريف العنف الطائفي في خطاب السلطة الأسدية

من نافل القول أن يتفهم المرء أكاذيب الأسد السياسية، من شاكلة إصراره على تحويل أزمة نظامه السياسي إلى أزمة أخلاقية عند معارضيه، أو في تحويل مطالب الناس المحقة بالتغيير إلى مؤامرة كونية، ذلك أنه يدرك في قرارة نفسه مسبقًا الطابع التلفيقي لذلك الفعل، الذي يتوسل من خلاله البحث عن إيجاد تبرير نفسي لمعاقبة كل فرد قرر التمرد على سلطته، وذلك قبل السماح له بالعودة إلى بيت الطاعة. أما أن يركن المرء بالاستماع إلى أكاذيبه الفكرية التي لا تقوم على حجة أو منطق فذلك ما لا طاقة له به ولا تحمل. فكيف يمكن لإنسان عاقل أن يتساوق مع فكرته عن الفرق بين الإنسان والحيوان، في إدعائه بامتلاك كلا الكائنين اللغة، مع معرفته البديهية بأن النظام اللغوي التواصلي، ما هو إلا نظام خاص بالكائن البشري وحده؟ وكيف له أن يطيق فكرة امتلاك الحيوان عقلًا مساويًا لعقل الإنسان في الفهم والخلق، إلى الدرجة التي تجعله يتخيل تنافس كل من فرس النهر والإنسان بالصعود إلى جبال الهمالايا، عبر استخدام فرس النهر لنفس حبال التسلق ذاتها المستخدمة من قبل الإنسان. فهل وصلت الوقاحة بالأسد حد جعل الفرق بين الإنسان والحيوان مقتصرًا على تفرد الكائن البشري على تبني العقائد الدينية، بقصد رفع رجال مشيخة الأوقاف إلى مستوى وجودي روحي لا يقدر عليه إنسان آخر غيرهم؟

سبق للأسد أن التقى برجال عبد الستار في مرات كثيرة، غلب على معظمها الطابع الاحتقاري لهم ولسلطتهم الروحية التي يفاخرون بها، ذلك أنه ظل يتعامل معهم كما يتعامل مع المرضى النفسانيين منه للرجال الروحانيين القادرين على ضبط الجانب الغرائزي في سلوكهم. إلا أن لهجته هذ المرة معهم جد مختلفة، فهو لم يكتف بالثناء عليهم لخروجهم بتفسيرهم القرآني المعجز من قبل عبد ستارهم، بل بلغ به الأمر حد الثناء على تدينهم الحق، الذي لولاه لعمت الفتنة والطائفية البلد وما قامت لنظامة قائمة تذكر. فما السر وراء هذا التغير المفاجئ يا هل ترى لخطاب السلطة الأسدية هذا؟ أيكمن الأمر في هذ الدفق الروحي الذي لمسه في أعينهم، أم يكمن السر في الدور المستقبلي الذي قرر انطاته بهم؟

بشار الأسد أقرب إلى لسفسطائي الذي يتعامل مع الحقائق من زواية فهمه الخاص، لا من زواية الطبيعة الموضوعية للحقيقة كما يبرهن عليها العقل

اقرأ/ي أيضًا: جدلية الحرب والسياسة في دولة الأسد

لم يأت الاسد إلى مؤتمر مشايخ الأوقاف ليقف على مخاوفهم من فصل الدين عن الدولة، الذي ادعى فيها ظلمًا وبهتانًا أنها مساوية لفصل الدين عن المجتمع، كما أنه لم يأت ليهدئ مخاوفهم من تلزيم مادة التربية الأخلاقية لأناس من شاكلة النبيلين اللادينيين؛ نبيل صالح ونبيل فياض. فهل جاء حقًا إذًا ليدلهم على معسكر الأعداء المتمثل بالليبرالية الجديدة؟ أم جاء بغرض مخالف تمامًا، ألا وهو تجديد تحالفه القديم معهم، تحالف المستبدين ذلك؟ ذلك أنه اليوم يعيش ويحيا في وقت عصيب لا يحسد عليه، فناهيك عن عزلته السياسية كمجرم حرب، فإن نظامه السياسي يعاني من ضائقة اقتصادية وصل به الأمر حد تقنين كل شيء من وقود الطهي إلى الخبز، وإنه ليخاف أن تنفجر في وجهه تلك الأفواه الجائعة في أية لحظة، الأمر الذي يجعله يبادر لحشد كل طاقات حلفائه المجربين، ليكونوا له عونًا في وأد أي معارضة أو احتجاج قد يتبادر لذهن أي مريد من مريدهم، سواء عبر تذكيرهم له بحرمة هذا العمل الشائن أو فداحة الثمن الذي سوف يدفعه جراء ذلك.

 

اقرأ/ي أيضًا:

اقتصاد الأسد الفاسد.. غربال بثقوب كبيرة

من هو المهزوم؟