16-فبراير-2017

من مؤتمر الاتحاد الأخير (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

عادة ما يهتف أنصار الاتحاد العام التونسي للشّغل في مسيراتهم بشعار "الاتحاد الاتحاد أقوى قوة في البلاد"، ذلك أن المنظمة الشغيلة، التي تأسست منذ أربعينيات القرن الماضي، هي أكبر مؤطر للتونسيين ويبلغ عدد منخرطيها قرابة 700 ألف منخرط في بلد يبلغ عدد سكانه النشيطين أي فوق 15 سنة حدود 4 مليون ساكن. وبالتالي، لم يكن عقد الاتحاد لمؤتمره الوطني قبل أيام إلا حدثًا وطنيًا في تونس، عملت وسائل الإعلام المحلية خاصة على تسخير إمكانياتها لمواكبته أولًا بأول، وحرص الفاعلون السياسيون على متابعة تفاصيله.

لم يحمل مؤتمر اتحاد الشغل في تونس، مفاجأة في نتائجه حيث حققت القائمة التوافقية فوزًا كاسحًا وتعتبر تواصلًا للمكتب السابق

اقرأ/ي أيضًا: المحاماة التونسية في إضراب مفتوح.. لماذا؟

حصيلة المؤتمر.. التوافق الدائم

لم يحمل مؤتمر الاتحاد سنة 2017، وهو ثاني مؤتمر بعد الثورة، مفاجأة في نتائجه حيث حققت القائمة التوافقية لمكتبه التنفيذي فوزًا كاسحًا. وتضم هذه القائمة 10 أعضاء من المكتب السابق و3 أعضاء جدد وذلك بعد انسحاب 3 آخرين لعدم إمكانية ترشحهم لولاية ثالثة. ومن بين هؤلاء المغادرين الأمين العام السابق حسين العباسي، الذي أعاد للمنظمة الشغيلة دورها الوطني بقيادتها للحوار السياسي سنة 2013 وهو ما توّج المنظمة الشغيلة، مع 3 منظمات مدنية أخرى، بجائزة نوبل للسلام سنة 2015.

وتمثّل القائمة التوافقية، التي يقودها الأمين العام الجديد نور الدين الطبوبي، تتابعًا للمكتب التنفيذي السابق بداية من حفاظ أكثر من ثلثي أعضائه على مقاعدهم، إضافة لصعود أمين عام من تيار "أولوية النقابي على السياسي" أو تيار العاشوريين، نسبة للزعيم التاريخي الحبيب عاشور، الذي قاد معركة استقلالية الاتحاد عن الحزب الحاكم في السبعينيات والثمانينيات. حيث يسيطر هذا التيار على خطط مفاتيح في المكتب التنفيذي أهمها الأمانة العامة والنظام الداخلي.

إضافة لذلك، يضم المكتب أعضاء محسوبين على التيار اليساري والقومي، وهو تيار نشط بقوة داخل الاتحاد منذ معركة استقلاليته في سبعينيات القرن الماضي، وهو ما استمر في زمن النظام السابق. ومن بين هؤلاء الأعضاء البارزين حفيظ حفيظ المحسوب على حزب العمال، وسامي الطاهري المحسوب على الوطنيين الديمقراطيين، وبوعلي المباركي المحسوب على القوميين.

وتؤكد تركيبة القائمة التوافقية على استمرار التزاوج بين تيار العاشوريين والتيار اليساري والقومي، مع نجاح التيار الأول بصفة دائمة في فرض خط عامّ داخل المنظمة قوامه "أولوية الالتزام بالنضال الاجتماعي"، وهو تيار تزايد نفوذه خاصة بعد الثورة، ليس فقط من خلال إعادة الإشعاع للاتحاد ونجاحه في الجمع بين النضال الاجتماعي و"المسؤولية السياسية" من منطلق دوره التاريخي وهو ما تمثل في مبادرة الحوار الوطني، بل كذلك بدفع من منخرطيه من الإسلاميين وبقية التيارات السياسية، وذلك بعد تحرّر المناخ السياسي في البلاد.

فبينما مثل الاتحاد ملجأ للتيار اليساري والقومي طيلة عقود زمن الاستبداد، غاب الإسلاميون عن الاتحاد لأسباب منها تحفظهم على الفعل النقابي في مرجعياتهم إضافة لانغلاق المجال العام أمامهم بما منعهم من الولوج بفاعلية إلى داخل الاتحاد. وبالتالي، مثّل العمل على تعزيز مواقع "النقابيين الكلاسيكيين" خيارّا مفضلًا لهم أمام بقية النقابيين من ذوي الحمولة الأيديولوجية.

وهذا الصنف الثاني من النقابيين عكسته بوضوح القائمة المنافسة للقائمة التوافقية، والتي تزعّمها قاسم عفية الأمين العام المساعد في المكتب التنفيذي السابق. حيث هاجم عفية، في الحملة الانتخابية، الإسلاميين واتهمهم بمحاولة اختراق الاتحاد وافتكاكه، بل اتُّهم الأمين العام الجديد الطبوبي بأنه "قريب من حركة النهضة" لعدم إبرازه وجهًا عدائيًا كعفية. ويؤكد المتابعون للشأن النقابي أن مردّ هذا الاتهام خاصة انتماء الطبوبي للتيار النقابي الكلاسيكي الرافض لتوريط الاتحاد في الصراع السياسي-الحزبي.

وقد ضمت قائمة عفية التي لم تنجح في الظفر بأي مقعد أسماء مثيرة للجدل من بينها لسعد اليعقوبي كاتب عام نقابة التعليم الثانوي، والمستوري القمودي كاتب عام نقابة التعليم الابتدائي، وكلاهما من التيار اليساري، ويقودان معًا حاليًا حملة لإسقاط وزير التربية ناجي جلول. وقد تبنى الطبوبي بعد انتخابه مطلب خصومه داخل الاتحاد، حيث طالب رئيس الحكومة بإيجاد بديل لوزير التعليم الحالي.

من جانب آخر، ضم المكتب التنفيذي الجديد امرأة لأول مرة في تاريخه وهي نعيمة الهمامي زوجة عبد الرزاق الهمامي الأمين العام السابق لحزب العمل الوطني الديمقراطي، والذي توفي السنة الفارطة إثر نوبة قلبية. ويمثل هذا التصعيد التزامًا بتعزيز مكانة المرأة في الاتحاد، حيث أقر المؤتمر نظام الحصص للمرأة في جميع هياكل الاتحاد.

ما يميّز الانتخابات داخل الاتحاد هو تداخل عدة عناصر في مجهود تحقيق التوازن والتوافق داخله. ومن أهم هذه العناصر الأداء النقابي، والانتماء الأيديولوجي والسياسي، والانتماء الجهوي إضافة للمرجعية القطاعية والمهنية. ويفترض انتخاب 13 عضوًا في المكتب التنفيذي للاتحاد تحقيق التوازن بين مختلف هذه العناصر، وهو ما تحقق في القائمة التوافقية التي تنتظرها عدة تحديات في السنوات الخمس القادمة.

اقرأ/ي أيضًا: 6 سنوات في مسار ثورة تونس.. تحديات تنموية حارقة

المكتب التنفيذي الجديد.. رهانات وتحديات

يتمثل أكبر تحدّ للقيادة المركزية الجديدة للاتحاد في قدرتها على حماية مصالح الأجراء في تونس في ظل أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة تسعى الحكومة لتجاوزها في ظل خشية أن يكون علاجها على حساب الطبقة العاملة. فقبل شهر واحد من المؤتمر أي في نهاية سنة 2016، أعلن الاتحاد إضرابًا عامًا في البلاد بسبب إقرار الحكومة عدم منح الزيادات في الأجور في قانون المالية. وهو إضراب تم تلافيه بعد اتفاق الحكومة مع الاتحاد على تقسيط هذه الزيادات.

ولعل أول الملفات الحارقة على طاولة القيادة الجديدة هي ضمان القدرة الشرائية في ظل مطلب المانحين الدوليين من الحكومة تخفيض كتلة الأجور، وكذلك ملف إصلاح الوظيفة العمومية حيث تسعى الحكومة للتخفيض من عدد الموظفين عبر امتيازات ظرفية لهم أو عبر مشروع الترفيع في سن التقاعد. كما انطلقت الحكومة في عملية لإصلاح الصناديق الاجتماعية المهددة بالإفلاس، وذلك بالإضافة لملف الإصلاح الجبائي.

ويعمل الاتحاد على ضمان تفعيل مقارباته، في الوقت الذي يعلم فيه عدم قدرة الحكومة الإقرار لوحدها في هذه الملفات. حيث حافظ الاتحاد، ورغم نشأة نقابات بعد الثورة، على قوته فارضًا نفسه كـ"الشريك الاجتماعي الوحيد" لدى السلطة.

يرى الكثيرون أن على قيادة اتحاد الشغل في تونس المحافظة على موقعها التاريخي والابتعاد عن الصدام التام مع السلطة أو تدجينها لصالحها

وكان الاتحاد قد سجّل في لائحته العامة في مؤتمره، وهي اللائحة التي تعكس سياسته، استمرار "الهجمة الشرسة" على القطاع العام، وضد الدفع نحو خوصصة مؤسساته، و"استشراء الفساد" وضعف المنظومة القانونية لمقاومته، مشيرًا إلى تفشي التهرب الضريبي مقابل سياسة جبائية غير عادلة، خاصة في حق الأجراء، وتدهور الوضع الاقتصادي بالبلاد، وارتفاع المديونية العمومية.

وإضافة لهذه التحديات الاقتصادية والاجتماعية، لا يمكن للمنظمة الشغيلة أن تغفل عن دورها الوطني، وهو دور تاريخي منذ نشأتها مما جعلها لدى الضمير الجمعي التونسي كمنظمة وطنية جامعة قبل أن تكون منظمة نقابية مطلبية. حيث نشأ الاتحاد تاريخيًا في زمن معركة الاستقلال، وتصدر مع الحزب الدستوري معركة الكفاح السياسي.

ويتعزز دوره الوطني من خلال التزامه بالقضايا الإقليمية، حيث تضمن مؤتمر الاتحاد لائحة خاصة بعنوان "الصراع العربي الصهيوني" التي دعت إلى توظيف جميع الإمكانيات الضرورية لتكريس ثقافة المقاومة وإحياء المحطات النيرة في تاريخ الصراع العربي الصهيوني. إذ يتميز الاتحاد بإشعاع مهم في الساحة العربية والدولية خاصة بعد جائزة نوبل للسلام.

وقد استطاع اتحاد الشغل التونسي حاليًا في الداخل كسب ثقة الفاعلين السياسيين بعد رعايته للحوار الوطني سنة 2013، إذ يظهر كضامن لمرحلة ما بعد الحوار بما في ذلك لحالة التوافق السياسي بعد انتخابات 2014 بين حركة النهضة ونداء تونس. كما يمثل أحد ركائز وثيقة قرطاج المبرمة في صيف 2016 والتي تمثل مرجعية حكومة الشاهد الحالية. وقد رفض الاتحاد المشاركة في هذه الحكومة التي تضمنت تركيبتها بالنهاية وزيرين محسوبين عليه هما عبيد البريكي وزير الوظيفة العمومية ومحمد الطرابلسي وزير الشؤون الاجتماعية.

ويتمثل الرهان داخل الاتحاد في الموازنة بين دوره الاجتماعي ودوره الوطني، حيث شدّد أمينه العام الجديد على ضرورة أن تكون التضحيات في المسألة الاجتماعية من مختلف الأطراف وليس من الأجراء فقط.

استطاعت بالنهاية المنظمة الشغّيلة، وهي أكبر قوة تأطيرية في تونس، بأن تكون "فوق الجميع" في الساحة السياسية بعد الثورة بمعنى أنها متعالية عن مناكفاته وصراعاته، وهي ميزة جعلت الاتحاد بموضع "المحايد الإيجابي". ويتمثل الرّهان لدى القيادة الجديدة في المحافظة على هذا الموقع الذي يكرّس الدور التاريخي والريادي له بعيدًا عن الصدام مع السلطة أو عن تدجينها له.

اقرأ/ي أيضًا:

الصناديق الاجتماعية في تونس.. إفلاس غير معلن

ما هي ملامح الأزمة بين حكومة تونس و"اتحاد الشغل"؟