29-أبريل-2025
صراع الغزيين لاستلام الطرود

(GETTY) شاب يحمل طردين إغاثيين في غزة

من لحظة انتظار رسالة "التوجّه" وحتى استلام الطرد الإغاثي، يخوض المدنيون في قطاع غزة رحلة شاقة محفوفة بالتحديات، تُضاف إليها ساعات الانتظار الطويلة أمام طوابير المطابخ المجتمعية وأزمة الوقود الخانقة. وبينما يحاول السكان التخفيف من وطأة الجوع والمأساة اليومية بالمزاح والنكات، تتفاقم معاناتهم مع اقتراب نفاد آخر ما تبقى من الإمدادات الغذائية، وسط نداءات أممية تحذّر من ارتفاع معدلات سوء التغذية، لا سيما بين الأطفال.

"لم يبق لي سوى انتظار الرسائل"

بحسب موقع "الترا فلسطين"، فإن محمود (44 عامًا)، الذي فقد مصدر رزقه الوحيد بعد النزوح، وهو محل خياطة، يمضي أيامه بين تعبئة المياه وجمع النفايات، منتظرًا رسالة "توجّه" كما ينتظر الغزيون بارقة أمل. عند مروره بمحل شحن بحيّه في مخيم الشاطئ، يسأل ضاحكًا عن هاتفه، ثم يتبادل النكات مع صاحب المحل عن الكابونات. يقول الرجل الأربعيني: "لم يبق لي سوى انتظار الرسائل"، مضيفًا بأسى: "أحيانًا تكلفني المواصلات أكثر من قيمة الطرد".

وفي حي الشيخ رضوان بمدينة غزة، خرجت فاطمة (32 عامًا) لاستلام طرود غذائية، فانهالت عليها طلبات الجارات بحمل طرودهن أيضًا، لعجزهن عن دفع أجرة المواصلات. تقول فاطمة لـ"الترا فلسطين" ساخرة: "اضطررت للعودة على عربة كارو (يجرّها حمار)، ومشهد جلوسي وسط الطرود كان مادة مزاح بين الجارات لأيام"، وهكذا تحولت رحلة استلام المساعدات من حاجة ملحة إلى مساحة للتندر على المآسي اليومية.

من لحظة انتظار رسالة "التوجّه" حتى استلام الطرد الإغاثي، يخوض المدنيون في قطاع غزة رحلة محفوفة بالتحديات، يُضاف إليها الوقوف لساعات طويلة أمام طوابير المطابخ المجتمعية

يرى أستاذ علم النفس الاجتماعي في جامعة الأقصى في غزة، درداح الشاعر، في حديثه لـ"الترا فلسطين"، أن النكتة تمنح سكان غزة المحاصرين "شعورًا مؤقتًا بالراحة"، موضحًا أن "النكتة غالبًا ما تتركز في مجالي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، بعيدًا عن السياسة والأمن"، وأضاف "المجال الاجتماعي والاقتصادي يُعد أرحب لاستخدام النكتة للتعبير عن المعاناة، والكبد، والفقر الذي يثقل كاهل المواطن في غزة".

من طرود الإغاثة إلى المطابخ المجتمعية

لا تقتصر مأساة الغزيين على التحديات التي يواجهونها لاستلام الطرود الإغاثية، فهي تمتد إلى المطابخ المجتمعية أيضًا. كان على الجدة النازحة أم محمد لوكالة "رويترز" الانتظار خمس ساعات في طابور لمطبخ مجتمعي في النصيرات بقطاع غزة، حيثُ استطاعت في النهاية الحصول على وجبة واحدة لإطعام أطفالها وأحفادها الجائعين. تقول أم محمد: "نحن نعاني من مجاعة، مجاعة حقيقية"، مضيفة "لم آكل شيئًا منذ الصباح".

وبحسب "رويترز"، فإن عشرات المطابخ المجتمعية المحلية تواجه خطر الإغلاق، ربما خلال أيام، ما لم يُسمح بدخول المساعدات إلى غزة، مما سيؤدي إلى فقدان آخر مصدر ثابت للوجبات لمعظم سكان القطاع البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة. كما تشير بيانات الأمم المتحدة إلى أن نحو 10 آلاف طفل في غزة يعانون من سوء التغذية الحاد، من بينهم 1600 طفل منذ بداية العام الجاري، فيما ظهرت أعراض سوء التغذية على 60 ألف طفل آخرين.

قال مدير شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية أمجد شوا "رويترز" إنه لديهم "ما بين 70 إلى 80 مطبخًا مجتمعيًا لا تزال تعمل في غزة، وفي غضون أربعة إلى خمسة أيام ستغلق هذه المطابخ أبوابها"، مشيرًا إلى أن عدد المطابخ المجتمعية قبل إغلاق المعابر كان يقارب 170 مطبخًا، وأن 15 مطبخًا إضافيًا أُغلقت أبوابها أمس الإثنين.

فرصة للتنفيس عن حالة الاحتقان والتوتر

غالبًا ما يستقبل الجيران وائل عميرة بالمزاح، حيث يصرخون موجهين حديثهم إليه بالقول: "توجّه أيها البطل.. توجّه أيها البطل!"، ليرد عليهم ضاحكًا وهو يمرر إلى بيته طردًا غذائيًا. وبحسب "الترا فلسطين"، في الوقت الذي يبدأ أطفاله بتفقد محتويات الطرد، يخرج عميرة حاملًا طفله الرضيع باكيًا، ويقول للجيران ممازحًا أن سبب بكاء الطفل عدم وجود حفاضات أو حليب في الطرد.

من جانبها، تقول صابرين (35 عامًا)، وهي أرملة من مخيم النصيرات، إنها اضطرت لقطع أكثر من 17 كم شمال غزة لاستلام كفالة أيتامها الثلاثة وسط شح الوقود وندرة وسائل النقل، وتضيف لـ"الترا فلسطين" أنها تستعين بأحد أقاربها في الشمال لاستلام الطرود نيابة عنها، خاصة في ظل انقطاع إمدادات الوقود. ومع ذلك، فإن موعد استلامها للطرد الأخير كان بالتزامن مع إصدار جيش الاحتلال الإخلاء الفوري لمناطق جديدة في شمال القطاع.

وفقًا لأستاذ علم النفس الاجتماعي في جامعة الأقصى، فإن "النكتة تُستخدم كوسيلة للتعبير عن الواقع السياسي، النفسي، الاجتماعي، الاقتصادي، وحتى الأمني"، واصفًا هذا الواقع في غزة بـ"المرير"، ويضيف الشاعر لـ"الترا فلسطين" أن السكان يجدون في "موضوع استلام الكابونة فرصة للتنفيس عن حالة الاحتقان والتوتر التي يعيشونها، إذ تعكس النكتة عدم رضاهم عن هذا الواقع على الإطلاق".

نفاد الأطعمة الرئيسية من الأسواق

كان برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة قد أعلن قبل أيام أنه وزع آخر مخزون غذائي لمطابخ الوجبات الساخنة في غزة، ومن المتوقع نفاده خلال أيام، حيث توفر هذه المطابخ المجتمعية 25% من الاحتياجات الغذائية اليومية لنصف سكان القطاع. وفي ظل ارتفاع أسعار المواد الغذائية بنسبة تصل إلى 1400% مقارنة بفترة وقف إطلاق النار، ونقص حاد في السلع الأساسية، وسط مخاوف من تفاقم سوء التغذية، لا سيما بين الأطفال والفئات الأشد ضعفًا.

وبحسب تقرير لوكالة "أسوشيتد برس" صدر مطلع الأسبوع الجاري، فإنه مع عدم دخول أي سلع غذائية جديدة إلى غزة، اختفت العديد من الأطعمة الرئيسية من الأسواق، بما في ذلك اللحوم والبيض والفواكه ومنتجات الألبان والعديد من الخضراوات، وهو ما دفع بالعديد من العائلات إلى الاعتماد بشكل كبير على الأغذية المُعلبة.

وتشير "أسوشيتد برس" في تقريرها إلى أن جميع المخابز تقريبًا أغلقت أبوابها قبل أسابيع، في الوقت الذي لم تعد المطابخ الخيرية قادرة إلا على تقديم وجبات بسيطة من المعكرونة أو الأرز مع إضافات قليلة جدًا، بسبب نفاد معظم المكونات، بما في ذلك المكملات الغذائية. كما بدأت بعض المطابخ بتفكيك منصات الشحن الخشبية لاستخدامها وقودًا لطهي الطعام، نظرًا لنفاد الوقود من مختلف أنحاء القطاع.

وقالت منظمة العفو الدولية في تقرير لها إن أبحاثها أظهرت أن جيش الاحتلال ارتكب "أفعالًا محظورة بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية، وذلك بقصد محدد يتمثّل بتدمير السكان الفلسطينيين في غزة"، وهو ما يرقى إلى "الإبادة جماعية". وأكدت أن الاحتلال شن "هجمات خطرة على السلامة الجسدية أو العقلية لمدنيّين"، بالإضافة إلى تنفيذ عمليات "تهجير وإخفاء قسري، وفرض متعمّد لظروف معيشية تهدف للتسبّب في التدمير الجسدي لهؤلاء الأشخاص".