18-أكتوبر-2018

يقوم التضامن مع القضايا العادلة أحيانًا على انتقائية حادة (Getty)

مع تطور منصات الإعلام البديل، وتبلور فضاءات لتفاعل الرأي العام بشكل غير مسبوق، رفقة نشوء وانتشار نمط "المؤسسات غير الحكومية الحقوقية" العابرة للدول، معتبرة حضورها بمثابة حضور لـ"مجتمع مدني ما!" معولم، اكتسب مفهوم التضامن معنى مختلفًا، وما زال يخوض زوايا تشفير ومعان جديدة.

يصعب الجزم، إن كانت المؤسسات والدول، بما في ذلك الجماعات الحقوقية نفسها، تقوم بتمثيل الضحايا فعلًا وروايتهم، أم أنها تقوم بتمثيل نفسها من خلال هؤلاء الضحايا

وفي حين أصبح فعل التضامن فعلًا أكثر تأثيرًا، بالمعنى الذي يؤثر فيه بيان لمنظمة حقوقية فعلًا على سياسات، أو تبادر فيه مجموعة من الشركات والمؤسسات والأشخاص المؤثرين إلى مقاطعة دولة أو مؤسسة أخرى، فإن هناك وفي نفس الوقت، نوعًا من الانتقائية التي نشأت مع هذه القوة.

لقد أثارت واقعة اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي، ضجة واسعة، وحملات تضامن غير مسبوقة، وفي حين بدت الانتهاكات السعودية لفترة طويلة، وكأنها مسموحة بشكل استثنائي، ومغضوض النظر عنها، إلا أن ما جرى في الأسابيع الأخيرة، أثبت قدرة حملات التضامن على التاثير فعلًا، مع مقاطعة عشرات الشركات والصحف لمؤتمرات وتجمعات في المملكة.

مع ذلك، فإن ثمة أسئلة مشروعة تُطرح: لماذا تضامن العالم مع ضحايا السعودية الآن فقط؟ ولماذا سكت عن آلاف المعتقلين ومئات عمليات الاغتيال في السعودية، أو عن حرب تستمر لسنوات في اليمن، وتتسبب بأسوأ مجاعة في السنوات الأخيرة من الحياة البشرية على هذا الكوكب. من الصحيح أن قتل الصحفي والكاتب في صحيفة واشنطن بوست، كما تقول التقارير، واحد من أبشع عمليات الاغتيال التي قد يتصورها المرؤ، إلا أنه مع سجل طويل من هذا النوع من العمليات، فإن هذه العملية ليست إلا رقمًا، وهو ما يضفي شرعية أكثر على الأسئلة المطروحة آنفًا عن الانتقائية داخل فعل التضامن نفسه.

في سياق شبيه، أثارت حملة التضامن الواسعة مع الطفلة الفلسطينية عهد التميمي مثلًأ، نفس النوع من الأسئلة. إذ هناك عشرات آلاف الفلسطينيين الذين يعيشون نفس الحالة، ويتعرضون لنفس العنف، وأكثر، لكنهم لا يلاقون نفس الدرجة من التعاطف.

اقرأ/ي أيضًا: مقاطعة "مبادرة مستقبل الاستثمار".. ضريبة طيش ابن سلمان

يولد هذا النوع من الانتقاء الظالم، الذي يفاضل بين ضحية وضحية، حالة نفور عام من التعاطف المفاجئ مع قضية ما، والأهم حالة من التشكيك فيه. سيبدو الإعلام السعودي مثلًا مرتاحًا أكثر، عندما يقول إن هناك هجمة مخططة على بلاده، لأن الصمت عن الجرائم، كما أصبح رائجًا وكما تفترض السلطات في الرياض، أصبح أمرًا معتادًا، أما ما دون ذلك، فيحتاج إلى تفسيرات خارقة.

لكن هناك عوارض أسوأ من ذلك. مع اكتساب التضامن لهذه القوة، من خلال عملية مأسسته إلى حد ما، ومن خلال نشوء شبكات رأي عام واسعة، فإنه يكتسب سلطة بذاته، منفصلة عن القضية التي يتم التضامن معها، إلى درجة قد يكون فيها الانحياز إلى قضية ما، أهم من القضية نفسها، بل والتضامن يقوم مع حقوق الإنسان لا مع الإنسان بعينه. وبهذه الطريقة،  فإن الحدود لا تصبح واضحة بين التضامن باعتباره اتخاذ موقف مناصر لقضية أو ضحية ما، أو باعتباره نوعًا من الاستعراض الرمزي لوقائع وظيفية.

يولد الانتقاء التضامني الظالم، الذي يفاضل بين ضحية وضحية، حالة نفور عام من التعاطف المفاجئ مع قضية ما، والأهم حالة من التشكيك فيه

يصعب الجزم، إن كانت المؤسسات والدول، بما في ذلك الجماعات الحقوقية نفسها، تقوم بتمثيل الضحايا فعلًا وروايتهم، أم أنها تقوم بتمثيل نفسها من خلال هؤلاء الضحايا. ويجدر التساؤل عن موقف الضحايا أنفسهم وكيفية نظرهم إلى حالة إدعاء تمثيلهم!

ما يبدو واضحًا، على أية حال، هو أن هذه النزعة من الانتقائية داخل فعل التضامن، قائمة على شيء من مقامرة "العقلنة" المدرسية، وعلى حسابات الربح والخسارة قبل أي إعلان عن التعاطف مع أي قضية. وبالتالي فإن ميلًا نحو التضامن المريح/المربح، بعيًا عن سؤال الفعل ومساحة التأثير، يحدد الطريقة التي يعمل بها هذا الانتقاء.

إن أخذ موقف مناصر لصحفي تم اغتياله، أسهل بالتأكيد من أخذ موقف من حرب شاملة، تستفيد منها دول، وتصدر على هامشها شركات أسلحة بضائعها، إلخ. كما أن الانحياز إلى طفلة أسيرة، فعل سهل إذا قورن بالانحياز إلى قضية وطنية عادلة والوقوف على مجمل تعقيداتها المركبة. في الحالتين، فإن ما هو خطير يتجسد، في كون التضامن قائمًا على شيء من التجزيء، أي على اعتبار هذه القضايا منفصلة عن السياق العام، وتستحق موقفًا منفصلًا. أو كأنها حالات استثنائية، وهي ليست كذلك للمناسبة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

بعد "الأحد الأسود".. كيف ستتعامل السعودية مع ملف خاشقجي؟

السعودية أمام سؤال خاشقجي.. تناقضات وخطوات إلى الخلف