منذ اندلاع الثورة السورية في عام 2011، أصبح مصير البلاد معلقًا بين أحلام التغيير وإرث الاستبداد الطويل. إحدى أبرز القضايا التي تُبرز تعقيد المشهد السوري هي قضية العَلَم، التي تلخص جزءًا كبيرًا من التحديات الدستورية والسياسية في مسار الثورة. هذه القضية، رغم رمزيتها، تسلط الضوء على مشكلات أعمق تتعلق ببنية النظام السياسي، الهوية الوطنية، واستدامة السلام بعد أي تغيير محتمل.
فرض حافظ الأسد العَلَم السوري الحالي عام 1980، مستندًا إلى موروث الوحدة مع مصر (1958-1961)، لكن من خلال آلية تصويت صورية في مجلس شعب لم يكن يمثل إرادة السوريين الفعلية. ورغم أن العَلَم يُعتبر رمزًا للدولة، فإنه في الحالة السورية أصبح علامة على الخلاف السياسي. اليوم، ومع تطلع المعارضة السورية إلى إعادة تبني عَلَم الاستقلال أو "عَلَم الثورة"، يُثار سؤال جوهري: هل يمكن فرض رمز وطني جديد دون موافقة شعبية واسعة؟
الإجابة الأكثر عقلانية تكمن في أن وصف العَلَم وألوانه، كغيرها من الرموز السيادية، يجب أن يكون جزءًا من دستور البلاد. الفيلسوف الفرنسي، جان جاك روسو، أشار في كتابه “العقد الاجتماعي” إلى أن السيادة تنبع من الإرادة العامة للشعب، وليس من قرارات فردية أو سلطوية. بناءً على ذلك، لا يمكن لأي طرف أن يفرض رؤيته منفردًا، لأن ذلك يُكرّس منطق القوة والإقصاء الذي كان جزءًا من المأساة السورية. وبالتالي، يجب أن يُحدد العَلَم السوري القادم ضمن عملية استفتاء شاملة تُجرى بالتزامن مع التصويت على دستور جديد يعكس تطلعات جميع السوريين.
اليوم، ومع تطلع المعارضة السورية إلى إعادة تبني عَلَم الاستقلال أو "عَلَم الثورة"، يُثار سؤال جوهري: هل يمكن فرض رمز وطني جديد دون موافقة شعبية واسعة؟
انطلق من مسألة العَلَم لكي نعمم لاحقًا على بقية الأمور الخلافية التي يمكن أن تثار خلال مسيرة إعادة بناء الدولة. إذا نظرنا إلى تجارب ثورات سابقة، نجد أن انعدام التوافق الوطني والانزلاق في صراعات على السلطة أدى إلى مآسٍ كبرى. الثورة الفرنسية، رغم أنها مهدت الطريق للديمقراطية الحديثة، شهدت "عهد الإرهاب"، حيث أُعدم عشرات الآلاف على يد الثورة نفسها. قال المفكر الألماني هيغل: "التاريخ يعلمنا أننا لا نتعلم من التاريخ". في هذا السياق، فإن الثورات التي لا تؤسس لنظام سياسي متماسك غالبًا ما تتحول إلى دوامة من الفوضى.
في العصر الحديث، مثال ليبيا يُبرز خطر غياب مؤسسات قوية. بعد سقوط القذافي، تسببت الانقسامات الداخلية وتعدد الميليشيات في تفكك الدولة. أما اليمن، فقد تحولت انتفاضته الشعبية إلى حرب أهلية معقدة بالوكالة، بينما عانى العراق من تداعيات الاحتلال الأميركي وقرارات سياسية استبعادية خلّفت فراغًا أمنيًا ساعد على ظهور تنظيمات متطرفة.
الثورة السورية تُبرز تحديات مماثلة. بوصفها وسيلة للتغيير، لا تنتهي الثورة بإسقاط النظام، بل تبدأ بعده. إذا لم تُبنَ أسس سياسية ودستورية متينة، فإن الثورة قد تُكرّر مآسي الدول الأخرى التي لم تتمكن من تجاوز خلافاتها الداخلية.
لكي تتفادى الثورة السورية مصير الثورات الفاشلة، يجب أن تتسم بالخصائص التالية:
التوافق الوطني
يجب أن يُبنى النظام السياسي الجديد على شراكة وطنية حقيقية تشمل جميع الأطراف، بما في ذلك القوى التي دعمت النظام السابق. التغيير لا يعني الانتقام، بل يتطلب إدماج الجميع في عملية بناء الوطن. قال المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي: "الأزمة تنشأ عندما يموت القديم ولم يُولد الجديد بعد"، وهو ما يتطلب خلق توافق وطني يجسر هذه الفجوة.
إعادة بناء المؤسسات
انهيار مؤسسات الدولة هو أحد أكبر الأخطار التي تواجه أي ثورة. الحفاظ على المؤسسات الأساسية للدولة وتحييدها عن الصراعات السياسية أمر ضروري. مثال العراق يوضح كيف أن تفكيك الجيش والمؤسسات بعد الغزو الأميركي أدى إلى فراغ خطير ساعد في تصاعد العنف.
الإصلاح الدستوري الشامل
يجب أن تكون صياغة الدستور عملية شفافة وديمقراطية تُشارك فيها جميع أطياف المجتمع السوري. هذا الدستور يجب أن يضمن فصل السلطات، يحمي الحريات، ويُعرّف رموز الدولة بشكل يعكس الهوية الوطنية الجامعة.
العدالة الانتقالية
العدالة الانتقالية تُعد من أهم ركائز المصالحة الوطنية. يجب أن تكون هناك آلية لمحاسبة المسؤولين عن الجرائم خلال الصراع، لكن دون السقوط في فخ الانتقام، كما حدث في رواندا، حيث نجحت محاكم غاشاشا التقليدية في تحقيق مصالحة وطنية رغم المذابح.
إبعاد التدخلات الخارجية
التدخلات الخارجية أدت إلى تعقيد الأزمة السورية بشكل كبير. الحل المستدام يجب أن يكون سوريًا خالصًا، يعتمد على حوار داخلي وإرادة وطنية بعيدة عن تأثير الأجندات الخارجية، والاستفادة من كل الخبرات المتوفرة وطنيًا، دون الالتفات نحو المحسوبيات والمحاصصات الضيقة.
النجاح يعتمد على قدرة السوريين على التعلّم من الماضي، واستخدام الثورة كمنصة لبناء دولة عادلة ومستقرة، تُكرّم تطلعات جميع أبنائها
ولا يعني هذا بطبيعة الحال عدم الاستفادة من الخبرات الدولية والدول الصديقة وطلب دعمها لإعادة بناء القطاعات المتضررة، والمؤسسات. الثورة السورية كانت وستظل لحظة فارقة في تاريخ البلاد. لكنها لكي تُحقق أهدافها في الحرية والكرامة والعدالة، تحتاج إلى أن تكون أعمق من مجرد إسقاط النظام. يجب أن تتجاوز الشعارات والرغبات الآنية لتُصبح مشروعًا وطنيًا شاملًا يُراعي التنوع السوري، ويُجنب البلاد بحور الدماء.
الثورة ليست فقط بداية طريق صعب، بل فرصة لإعادة التفكير في أسس الدولة السورية. النجاح يعتمد على قدرة السوريين على التعلّم من الماضي، واستخدام الثورة كمنصة لبناء دولة عادلة ومستقرة، تُكرّم تطلعات جميع أبنائها، فحقوق المواطنة مكفولة للجميع بالتساوي، ليس هناك أقلية وأكثرية حين يتم الكلام عن المواطنة.
قال الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز: "الحياة ليست ما عاشه المرء، بل ما يتذكره وكيف يتذكره ليحكيه". لذا، يجب أن تُكتب قصة الثورة السورية كفصل جديد من الأمل، لا كاستمرار للتراجيديا.