05-مايو-2019

تمثال لماركس (AFP)

حمل اليسار العالمي لفترات طويلة من الزمن عبء تمثيل الفقراء، وعمل كثيرًا لأجل رفع الحيف عنهم عبر المناداة بتوزيع الثروات العادل وإزالة الفروقات بين الطبقات الاجتماعية والمساواة الاقتصادية، إلخ... اتخذت تعبيراته المنحازة للفقراء مختلف الأشكال بما فيها الخطابة والعمل النقابي والاحتجاجي والدعوات للإضراب عن العمل وغيرها. قسم من اليسار كان يتبنى إيديولوجية فكرية أو ساسية، وقسم اتخذ من العمل النقابي والمهني سبيلًا لتحقيق مشروعه، وقسم أقدم على مواجهة السلطات السياسية القائمة في بلد معين لأجل الدفاع عن حقوق الفقراء، وغالبًا كان ذلك في بلدان العسف والطغيان حيث لا نقابات ولا تجمعات مهنية يمكن أن تشكّل ضغطًا على السلطة السياسية لدفعها للاستجابة لمطالب الفقراء وظهر ذلك، غالبًا، في الدول العربية.

حمل اليسار العالمي لفترات طويلة من الزمن عبء تمثيل الفقراء، وعمل كثيرًا لأجل رفع الحيف عنهم

بقي ذلك، حسب بعض الدراسات، حتى سبعينيات العشرين، لكنه تعمق اعتبارًا من مطالع الألفية الثالثة حيث وصلت الرأسمالية العالمية إلى إيجاد صيغ يمكن عبرها تفتيت وتمييع هذا الصراع الاجتماعي وحرف بوصلته بشكل كامل وخلق صراعات أخرى تساهم في تفتيت المجتمع عبر ابتكار اشكال أخرى من الصراع والفروقات الاجتماعية. وهذه الصيغ هي ما بات معروفًا بـ"سياسات الهوية"، وهذه تقدّم تعريفًا للإنسان ليس حسب انتمائه الوطني، وليس حسب تموضعه الاجتمعاي الاقتصادي أو حتى السياسي في المجتمع بل حسب انتمائه العرقي أو الديني أو المذهبي أو حسب الجنس: ذكر / أنثى، أو انطلاقًا من توجهه الجنسي: مثليّ، متحول جنسيًّا... وأنشأت لذلك منظمات هي التي تعرف بالـ"إن جي أوز" ودعمتها ومولتها وأخضتها تاليًا لسياساتها.

اقرأ/ي أيضًا: المرأة كأيقونة للثورات العربية

إحدى النتائج الكبيرة لهذه السياسات هي انخراط اليسار العالمي بها. فعوضًا أن يهتم بحقوق الفقراء الذي نشأ، في أحد مساراته، لأجل الدفاع عنهم وتمثيلهم، انخرط في سياسات الهوية وراح يهتم بالأقليات والبيئة والمثليين والمتحولين جنسيًّا، إلخ... وتخلى عن مهمته التي ادعاها منذ البداية وبرر وجوده بها وهي تمثيل الفقراء، وبهذا يكون خان جماهيره وتحالف مع الرأسمالية التي ما انفك يناصبها العداء أو الخصومة وخضع لسياستها. فوكوياما، المفكر الأمريكي، اعتبر أن صعود اليمين الشعبوي في أوروبا وأمريكا نتج، أساسًا، عن خيانة اليسار هذه وضلوعه في "سياسات الهوية" الرأسمالية عبر تخليه عن هدفه الأول المعلن والتاريخي.

على المستوى التمثيلي أو الحركي إذًا لم يعد للفقراء من يمثّلهم ويطالب بحقوقهم، وكذلك الأمر على المستوى الفلسفي. فيما مضى ظهرت واحدة من أكبر الفلسفات في العالم وأكثرها تأثيرًا هي فلسفة كارل ماركس، نصوص ماركس، وقد سمّيت بفلسفة الطبقة العاملة طيلة فترة الاعتقاد الطويلة بطليعية الطبقة العاملة وقيادتها للتغيير التاريخي المنشود. لكن، أيضًا، لم تكن نصوص ماركس مقتصرة على الانحياز للعمال فقط (بوصفهم طبقة ذات معالم واضحة كما بات معروفًا في التفسيرات التي طاولت نصوص ماركس) بل شملت جميع الفقراء، من حيث أن ثمة بلدانًا كثيرة على امتداد العالم لا تحتوي على طبقة عمال "نقية" حسب وصفة ماركس، بل على حشد من الفقراء الذين تربطهم مع العمال الظروف التعيسة ذاتها، والرغبة ذاتها بالتحرر، وقد أتاحت العديد من نصوص الفيلسوف الشهير إمكانية أن تعبر عن جميع الفقراء، حسب تفسيرات عديدة. لكن جرى ما جرى لفلسفة الطبقة العاملة هذه عبر انهيارات مريعة لدول بأكملها اختارت التأويل الماركسي لظروفها وحياتها، ودكتاتوريات جعلت التشكيك بفرص الفيلسوف المقدمة للبشرية مشكوكًا فيها بكثرة، فقد كان أول بلد بُني على "نصوص ماركس" بلدًا مات فيه الناس بأعداد مهولة بذريعة تطبيق تصور ماركس التحرري! الأمر الذي جعل تصورات هذا الأخير غير مرحّب بها في غالب أرجاء الأرض، وتشوّهت بكثرة سمعة فيلسوف الفقراء. ارتدادات ذلك كان تراجع الفلسفة عن الانغماس في أرض الواقع المتسخة التي نقلت أمراضًا عديدة للفيلسوف، ورجعت الفلسفة، في فروع كثيرة منها، إلى برجها العاجي البعيد عن تعرّقات الفقراء وروائحهم، وأبقتهم بلا فلسفة تعبر عنهم، أو تمثلهم، أو تنادي بتحررهم، وبذلك خانتهم، هي الأخرى، أيضًا.

لم تبن الفلسفات الاجتماعية نظرية متكاملة للفقراء يمكن أن تجعلهم يشعرون أن لهم سندًا غير القضاء والقدر

الفلسفات الاجتماعية التي ظهرت شرحت وحذّرت من الـ System العام الذي تتحرّك فيه الرأسمالية وأثرها السلبي على الحيز العام الذي احتكرته مباشرة عبر إجراءات عديدة من ضمنها "سياسات الهوية"، لكنها -الفلسفات الاجتماعية-  لم تبن نظرية متكاملة للفقراء يمكن أن تجعلهم يشعرون أن لهم سندًا غير القضاء والقدر! ولم تنحز مباشرة إليهم على غرار فلسفة ماركس حسب تفسيرات المنتمين إليها.

اقرأ/ي أيضًا: أوروبا بوصفها ريف العالم

باعث هذه المقالة أمران: الأول، هو التفكير باليسار العربي وانحيازه (في جزء ليس بالقليل منه) إلى الأنظمة التي قامت الثورات ضدها، بشكل خاص الثورة السورية، تحت شعارات شبحية مثل مواجهة الإمبريالية العالمية والصهيونية والتكفيرية (!) التي تزعم الأنظمة، السوري خاصة، أنها تتبناها، في عملية غباء تاريخية عن التفسير، وبيع مكشوف على نحو صفيق للذمم والضمائر. الأمر الآخر هو مناسبة: عيد العمال العالمي حيث تحتفل الرأسمالية ذاتها به، وكذلك أنظمة الطغيان العربية كتفًا بكتف.

 

اقرأ/ي أيضًا:

وداعًا أيها الشيخ الذي أراد تغيير مناسك الحج

نبيل صالح.. هكذا تكون العلمانية الأسدية!