25-يناير-2016

مصطفى حسونة (الأناضول/Getty)

إذا قصدت الفئة العمريّة العشرينيّة من شباب بيروت، ورحت تسألهم عن حياتهم بعد عشرة أعوام على الأقلّ، فإنّ معظمهم سيصف لك عائلته الحميمة. أمّا إذا اتّجهت لفئة المراهقة ووجّهت نفس السّؤال، فستلقى الإجابة نفسها مع إضافة بعض التّفاصيل عن العلم والعمل قبل الانتهاء إلى الزّواج. في مجتمعنا بطابعه الشرقي، يرى الجميع في الزّواج نهاية المطاف. البعض ينهي مطافه مبكّرًا في مطلع العشرين، والبعض الآخر يعاود عشرينيّته عندما يبلغ الثّلاثين، وينهي مطافه عندما تسرق منه شيبة الأربعين رونق الشّباب، يملّ من سماع تمنّيات الوالدة، الّتي تفوق رغبتها في زواج ابنها رغبته هو شخصيًّا، يبقى وحيدًا وأعزبًا بين شلّة أصدقاء أنجبوا أطفالًا، فيستسلم لسنّة المجتمع ويقطف وردة العشرين ويدفنها في ربوع الحياة باكرًا.

بعد حفل زفافٍ صاخب وإنجاب الأطفال والوصول إلى مكان بعيد، ربّما يستفيق العروسان من كبوتهما ويدركان أنّ لكلّ منهما حياته

ولكنه، سيستفيد من بعض الامتيازات. علاقة عاطفية ناجحة مثلًا. وقد تستثنى من النّجاح فورًا عند غيابها عن "برمة العروس"، وهو تقليدٌ شعبيٌ تقوم فيه عائلتا العروس والعريس بالتّجوّل بالسّيّارات في المدينة بعد انتهاء حفل الزّفاف مع أجواء من الاحتفال مرفقةً بالزّمامير وصولًا إلى بيت العروسين، حيث تنتهي العاطفة وتبدأ مسؤوليّةٌ لا مهرب منها عن سماع السّؤال التّقليديّ "شو مخبّيتلنا العروس؟" في صباح اليوم التّالي. الزّواج هنا هو تصريح يسمح لحامليه إنجاب الأولاد و"الاستقرار" حسب تعبير المجتمع، وهنا، لا أحد يستطيع الوقوف بوجه أمواج المجتمع.

القسمة والنّصيب

منذ بضع سنوات عرضت قناة الـLBC اللبنانية برنامج "Perfect Bride" وهو برنامج يستضيف عددًا من الشّبّان والشّابّات يقوم فيه كلّ منهم باختيار شريك، والثّنائي الّذي ينجح بإبداء أكبر قدر من التّوافق يفوز بتغطية نفقات الزّواج كاملة. البعض وصف البرنامج بالتّفاهة وقالوا إنّه من غير المنطقيّ أن يأتي أشخاص ليقابلوا آخرين مقرّرين أنّهم سيقعون في حبّ أحد منهم، فالوقوع في الحبّ هو شيء خارج عن الإرادة كلّيًّا ولا يستطيع أحدٌ في هذا العالم إجبار نفسه على حبّ شخصٍ ما حتّى لو توافّرت الدّوافع.

الغريب في الأمر أنّ هذا مشابه تمامًا لما يحدث في المجتمع التّقليديّ، يعجب شابٌّ بفتاة، فيطرق باب بيتها، وإن لم يكن يعيبه شيء ويمتلك مؤهّلات الزّواج من بيت ووظيفة جيّدة وسيّارة بناء على طلب الأهل ومظاهر العيش الكريم، فسيكون هناك على الأقلّ جلسة واحدة تجمع بين الفتاة والشّاب بالرّغم من أنّها لا تعرفه أصلًا، ولكن إن كانت تؤمن بالقسمة والنّصيب فستؤمن أيضا أنّها ستحبّه مع الوقت، ليس لأنّها سريعة الوهلة أو حقًّا أعجبها الشّاب، بل لأنّها تعاني من فوبيا "العنوسة" (يا له من مصطلح بغيض) بسبب نظرة المجتمع المريضة إلى امرأة لم تتزوّج، وكأنّها مثيرة للشّفقة، فتسكت الفتاة وتهاب ألا يتقدّم لها أحد بعد هذا الشّاب، فتمضي في رحلة زواج ناجحة أو فاشلة يقرّر مصيرها التّفاهم بين شخصين ربّما لم يقعوا في حبّ بعضهم في الأصل، هو يريد الزّواج وتكوين أسرة، وهي تهاب "العنوسة" (ما غيرها) وهذا كلّ ما في الأمر.

النّصيب لا يستثني الزّواج المبكر أيضًا، فالمجتمع يحاول السطو على الأنثى فحين "يأتي نصيبها" يجب أن تتزوّج من دون تردّد. إنها متلازمة العنوسة والنصيب العبقرية. ففتاة الثّامنة عشرة لا ترفض الزّواج، بل على العكس، تريد أن تنتقل إلى برّ الأمان، ربّما هروبًا من واقعها المملّ، أو اعتقادًا منها أنّها ستنتقل إلى مكان أفضل، أو حتّى لأنّها تخشى الفراق قبل الزّواج، كلمة الزّواج تريحها، فإنجاب الأطفال والعيش في بيت واحد يضع قيودًا جبّارة أمام فكرة الطّلاق، فإنّ أوّل ما يفكّر به ثنائي متزوّج عند طرح فكرة الطّلاق هو الأولاد والمشاكل النّفسيّة الّتي يمكن أن يخلقها أمّ وأبّ منفصلين. يارا خطبت في سنّ الثّامنة عشرة، تبلغ اليوم العشرين من عمرها وهي حامل، أودّ ان أراها مجتمعةً بزميلاتها من المدرسة وكيف ستشعر أنّها غريبة، تزوّجت عن حبّ وبرضاها، ومن دون أن تعي أنها ستقيم في قبر الزواج، أو "القفص الذهبي"، وهذا اسم غبي يطلق على الزواج هنا.

أقلّيّة في المجتمع التّقليديّ يرفضون قيوده ويحاربون طريقة الزّواج التّقليديّة بكلّ الأساليب

فارق السن

من الشائع اجتماعيًا، أيضًا، أن امتلاكك لمؤهّلات الزّواج ومتطلّبات العيش الكريم سيخوّلك اختيار شريكة حياتك من الفئة العمريّة الّتي تريد. حتّى وإنّ تعدّى فارق العمر بينك وبينها العشر سنوات. هذه قواعد الذكورية. فالفتاة العشرينّة حلا لم ترفض رجلًا يفوق عمره الثّلاثين. ولا نتحدث عن علاقات طبيعية، إنما عن الزواج "غب الطلب"، الذي يحول الأنثى إلى سلعة تُمنح لمن يدفع مهرًا أكبر.

شيء يشبه التّخلّف في عصر الجاهليّة ولكنّه أكثر تحضّرًا، فهنا المزاد يجري تحت الطّاولة ولا تمانع الفتاة هذه الطّريقة، فتبقى منتظرة إلى أن يأتي من يشتري لها سيّارةً في فترة الخطوبة، توافق عليه من دون التّفكير مرّتين، وتسمّيه بالنّصيب، وتمكث معه تحت سقفٍ واحد لا أحد يعرف ما يدور تحته إلّا كلاهما، تتخيّل زوجها في العمل كلّ يوم وهي مرتاحة ومُؤمّنٌ لها جميع وسائل الرّفاهيّة، فباستطاعتها الخروج والتّمتّع بحياةٍ لم تحلم بها، كلّ هذا يُتاح لها بمجرّد اختيار الزّوج حسب هذه الطّريقة الرّجعيّة. وبالرّغم من فارق العمر، يعيش البعض حياةً متفاهمة خالية من الاختلافات والمشاكل، ولكنّ هذا لا ينفي دفن الفتاة وحرمانها من أيّام الشّباب، والبعض الآخر يدرك أنّ وقع كلمة "فارق العمر" يصبح ثقيلًا على الأذن بعد الزّواج ويدركان أنّهما ينتميان لأزمان مختلفة، وعند حدوث ذلك يقتنعان أنّهما اقترفا خطأ جسيمًا.

ما بعد الزّواج

بعد حفل زفافٍ صاخب وإنجاب الأطفال والوصول إلى مكان بعيد، ربّما يستفيق العروسان من كبوتهما، ويدركان أنّ لكلّ منهما حياته. ربّما لم يُعجبا ببعضهما البعض أصلًا، ربّما أرادا فقط تكوين أسرة وهذا ما حصداه. ولم يبق ما يربطهما من شيء سوى الأسرة. يقول جوني ديبّ أنّك إذا وقعت بحبّ شخصين في آن معًا فاختر الشّخص الثّاني، فلو أنّك تحبّ الأوّل حقّا لما وقعت بحبّ الثّاني. هذا يلخّص أخطر نتائج الزّواج عن غير العاطفة، نسمع كثيرًا في مجتمع اليوم عن الخيانة الّتي يقوم بها كلا الطّرفين، خيانة تركت وراءها سنواتٍ ضائعة من العشرة وأولاد مشرّدين مشوّشين، تنتهي في معظم الأحيان بالطّلاق المدمّر حين يدرك الأمّ والأبّ أنّهما لا يحبّان بعضهما ويقوم كلّ منهما في البحث عن حبّ حقيقيّ ليس من الضّروريّ أن يؤدّي إلى زواجٍ جديد. هذا من ناحية، أمّا من ناحية أخرى فربّما يعيش الزّوجان حياة الاستقرار والتّفاهم، حياةً أفضل من تلك الّتي يعيشها زوجان عاشا قصّة حبّ طويلة قبل الزّواج وافترقا بعد عدّة سنوات. طريقة الزّواج التّقليديّ الخارجة عن تعارف مسبق ربّما تنجح وربّما لا، ليست معيارًا للنّجاح أو الفشل ولكنّها مظهر رجعيّ.


 


زواج "ما بعد الحداثة"

أقلّيّة في المجتمع التّقليديّ يرفضون قيوده، ويحاربون طريقة الزّواج التّقليديّة بكلّ الأساليب، كلامهم نتيجة تأثر بالحياة الغربية في عواصم الغرب غالبًا لا في أريافه. فلنأخذ مثالًا على ذلك ثلاثة رجالٍ من نفس العمر، الأوّل متزوّج ولديه أطفال، الثّاني مستعدّ للزّواج وينتظر قصّة الحبّ، والثّالث لا يريد الزّواج بتاتًا، يرفض فكرة التّقيّد، لا يريد أن يهدر أيً لحظة من حياته، ربّما حياته هي عبارة عن زجاجة بيرة في محطّة انتظار القطار ولكنّه يحبّها ويريدها أن تبقى كما هي. محمود شابٌ منفتح، درس في الجامعة وعاش قصّة حبّ. حصل على وظيفة هو والحبيبة، قاما ببناء عشّ الزّواج وتزوّجا في السّادسة والعشرين من العمر، عاشا شبابهما معًا وأنجبا طفلًا.

يقول محمود "عشنا قصّة حبّ جميلة، أنا أحبّها وهي تحبّني، كلانا كنا على استعدادٍ للزّواج، فما المانع؟"، ويضيف أنّ أكثر ما يكرهه في الزّواج التّقليديّ هو الوقت القصير المنقضي في التّعارف بين العروسين قبل الزّواج ويعتقد أنّه على الأقلّ يجب أن تكون هناك معرفة شخصيّة لا تقل عن الخمس سنوات بين اثنين قبل الانتقال إلى مرحلة الزّواج. أمّا حسن فهو شابُّ عشرينيٌّ أكثر تحررًا من محمود، يقول إنّه من المستحيل أن يتزوّج قبل الثّلاثين، "أريد أن أعيش حياتي وشبابي ثمّ أنتقل بعد ذلك إلى مرحلة المسؤوليّات". عند طرح فكرة الزّواج عليه، وعند سؤاله عن طريقة اختياره للشّريكة أجاب "لن أنتظر حتّى أبلغ الثّلاثين ثمّ أنزل للشّارع وأبحث عن فتاة تعجبني فأتزوّجها، لا مانع عندي من عيش قصّة حبّ تصل إلى الزّواج عندما أبلغ الثّلاثين، وإن لم أكن في حالة حبّ فسأعيش حياتي كما هي وعندما أقع في حبّ فتاة سأتزوّجها".

يرفض حسن فكرة اختيار الشّريك بناء على الرّغبة في الزّواج أو الرّغبة في تكوين الأسرة، ولا يحبّذ أيّ زواجٍ بعيد عن الحبّ والعاطفة. أمّا أكثر الغربيّين في المشرق راديكاليّةً، فيستثنون الزّواج من خريطة حياتهم، يعتبرونه باطلًا. ويرون أنّه ليس من الضّروريّ أن تؤدّي كلّ علاقة عاطفيّة ناجحة إلى زواج وأسرة، ويفصلون الإنجاب عن الزّواج، فعلى عكس ما يحدث في مجتمعاتنا، فإنّ الزيجات في مجتمعات أخرى لا تؤدي بالضّرورة للإنجاب.

وهنا يُطرح السّؤال، إن كان الشّاب والفتاة لا يعتبران الزّواج إثباتًا لنجاح العلاقة، ولا يحرّمان العلاقة الجنسيّة من دون الزّواج، ولا يرغبان بالإنجاب، فما الّذي يدفعهم للزّواج؟ الجواب ببساطة "لا شيء". قاسم درس الهندسة المعمارّيّة في فرنسا، زار أوروبّا وعاد للوطن، أمّه لاتكفّ عن لفت نظره لفتيات تراهنّ مناسبين كزوجاتٍ لابنها، قادمٌ من أوروبّا يواجه شكلًا مألوفًا من أشكال الزّواج التّقليدي يجابهه بالقول: "شو أهبل لأتزوّج وأقعد ربّي بهالولاد"، يقول ضاحكًا. ولكنه في مجتمع كهذا لن ينجو من الإنجاب إذا تزوّج ولن ينجو من الزّواج إذا بقي هنا. ربّما سيعود يومًا إلى أوروبّا وسيقيم مع فتاة يختارها بلا ضغوطات.

اقرأ/ي أيضًا:
جنوب لبنان.. تصاعد معركة الكحول
"الحلبيات".. أنوثة رغم أنف الحرب