01-مايو-2017

بغداد 1960، تصوير: كايسيليا بييري

كنا في بابل، جنوب العاصمة بغداد، يوم لا خلّ لي إلاها، يوم لا ضحكة إلا سومر، ولا عروس سوى كربلاء، يوم كان الطحين قليلًا لكننا شبعنا من كرامتنا ولم ننم عراة منها يومًا.

ما زلت عراقية الملامح، والروح لا تزال ترفض أن تتشبث بسواها، ما زلت عراقية لا أعترف بكل الأوراق المرمية في الدرج، ما زلت أؤمن أن جنسيتي في المكان الذي ينتمي إليه قلبي، ليس الواقع فيه جسدي، ما زالت كل الريح تجهل الطريق المؤدي إلى رئتي عدا ريح بابل، لا تزال دجلة أوسط بناتي أجملهن أو أكثرهن تعلقًا بالعراق.

قبل خروجي من العراق كنت أحلم بأن أملك الأوراق التي تسمح لي أن أدخل أكثر من واحد وثلاثين دولة، أن أملك جوازًا كالذي تملكه صديقتي، جواز أمريكي يتيح لها الفرصة لزيارة 147 دولة حول العالم دون تأشيرة، كنت أشعر بالنقص حين أتحدث معها، كانت تقول لي دائمًا، ليتني عراقية يا مريم، قلت لها "سأظل أقول لك شاليخليك تحبي تذوقي هيك مر؟"، قالت لي يومها "يسعد الصباح اللي ذقته مرة ببغداد وأدفع عمري أذوق صبح تاني فيه، أنتي القوية وأنا التي خارت قواي أمام أول عام من شح في الماء والطحين، لكنني وقتذاك كنت سأتحمل كل شح إلا شح السعادة والكرامة، لم أكن أتخيل أن أتخلى عنهما ولو كلفني الأمر أن أتخلى عن كل صبح يسعدني في العراق وكل أغانِ قحطان العطار التي تجمل  ليالِ بغداد".

تذكرت كم كنت حمقاء حين قلت لصديقة أخرى، حدثتها بنبرة  قاسية جدًا يومها، كنا قد خرجنا للتو من مركز الخطوط الجوية العراقية للحجز، كانت تريد الذهاب إلى إسطنبول، زيارة قصيرة قصدت فيها منزل عمها "إذا ابتلى ربي عباده حطهم في العراق، أنا بروح شوية لتركيا وحاسة روحي انشلعت، أنتي روحي هم شسالفة. محد قلك لا تروحين، بس لا تسألين بعد هيش شلون العراق؟ وشلون بابل وأبوس تراب بغداد".

شعرت وقتذاك بكلماتها تقيد صبري، أنا التي صبرت على أرق العراق مثل شخص مصاب بالسرطان، لا تنام أمه إلا إذا امتلأت وسادتها بملح دموعها من ألمها، من سكر الصبر الذي نفد لكثرة ما تحلت به.

اليوم حاولت أن أرسل لها رسالة نصية، كتبت فيها الكثير ثم حددتها كرسالة مؤرشفة، كتبت وحذفت، كتبت وحذفت ألف مرة، لم أكن أعلم أن الكتابة في بعض الأحيان تجرحنا، أن في الكتابة حزنًا آخر غير الذي زعمناه، وأننا محصورون بين ثمانية وعشرين حرفًا، الوجع والشوق واليأس، كلهم محصورون في تلك الحروف، اليوم عرفت كم تظلمنا الأبجدية، مليارات من المقالات، ألف حرف جر ويأس وإعراب عن القلق، وإن وكل أخواتها الثكالى، ومئات الكتب وكل حبر الأرض؛ لن يستطيع وصف شوقي لأرض العراق، لأمي نجيّة، وخالتي أم لقمان.

مكسور خاطري.. كتبت لها ولم أكمل لأن كل الحروف والكلمات رفضت أن تدخل في حرب كهذه، لست أتحكم في يدي حينما أكتب، لست أدري كيف تسابقت أصابعي على الياء، وتحملت وزر الألف يوم خلف فوقه ندبة لا تمحى والسين بأسنانها حاولت أكل اليأس لكن لا مفر.

جلست مع ابنتي دجلة، دجلة ذكية جدًا رغم صغر سنها إلا أنها تعرف كيف تختبر صبري ومدى تعلقي بالعراق، هذه المرة تحديدًا حاولت أن أتجنب أسئلتها الكثيرة، التي تزيد التهاب الجرح ولؤمه، "ماما شلون الخبز بالعراق وماكو طحين؟ ماما شلون تقولين موية بغداد كنها من نهر الجنة والموية أصلًا ما لها طعم؟ ماما شلون اليحب الثاني حيل يخليه؟".. تسألني  كثيرًا وفي أحيان كثيرة أحاول أن أغير مجرى الحديث لكنها تصر على نبش كل الجراح من دهاليز ذاكرتي، كيف أجيبها عن أسئلة أنا نفسي لم أجد لها أجوبة منذ تركت العراق، كيف تخليت عنه باختياري؟ وكيف كنت سعيدة جدًا يوم جاءني اتصال من السفارة الأمريكية لإخباري بموافقتها على طلب الهجرة واللجوء، لو كنت أعمل في السفارة وقتذاك لأسميته طلب النجدة دون جدوى، طلب الموت حيًا دونما تأشيرة للقبر، أو طلب الحزن إلى الأبد، أبدٍ غير أبد العراق.

يوم جاءني الرد من السفارة، ظننت أنني أكثر الناس سعادة على هذه الأرض، أخيراً  صدر بحقي حكم البراءة، إذن سأخرج من سجن ظننته مؤبدًا، اسمه العراق لا محل للفرح فيه، إلا حين يتوفر الطحين بكميات أكثر من ذي قبل.
أخذت كل حاجاتي يومها لكن قلبي غافلني وأغلق عليه باب الخزانة بإحكام، كان عليّ أن أتأكد أني خرجت بكامل قواي العقلية والجسدية، نسيت الكلمات، واللهفة قبل حدوث أي شيء منتظر، روح العراق التي كانت تعتريني، وضحكتي التي رفضت المجيء وجلست هي الأخرى بجانب قلبي، كونها ترفض ألا تخرج إلا منه، ترفض الذل والتصنع والمكوث بغير مكانها.

قال لي الطبيب مرةً إذا لم تستطيعي التغلب على حالة الحزن هذه، فإنك سوف تخسرين صحتك وشعرك ونضارة بشرتك. تخيلتُ شكل الحزن، شخصًا وسيمًا جدًا ممتلئًا بالفرح الذي يسرقه منا عنوة، يأكل صبرنا، مليئًا بكل الأماكن التي أحببناها وهجرناها بغير قصد منا، لكنه يأبى أن يبني كل شققه على أرض أضعنا فيها قلوبنا، غذاؤه الوحيد الأشخاص الذين أحببناهم، مليئًا بالشغف الكبير، بالفرص والنجاحات، شعره كثيف جدًا، ظننت أنني أتخلص من الشعر المتساقط برميه في مكان ما، أظل أقول في نفسي ليس الحزن إلا شخصًا منتقمًا للسعادة، إذا سرق الحزن كل شيء جميل فينا، ماذا تبقى للفرح؟ 

أخبرت الطبيب ما كنت أفكر به فضحك وضحكت، ثم عدت إلى الهذيان اللامتناهي وقلت: "إن السعادة حزينة جدًا، تأخذ الأوهام والكآبة والهالات السوداء لتحل هي، لو أن السعادة شخص، فكم من حزن مر عليه، كم دمعة سرقت وتنهيدات مرّة، خيبات وضجر، آلام القلب وكسر الخواطر؟".

في آخر جلسة لي عند الطبيب قال لي بنبرة عراقية رغم أنه أمريكيٌ من أصول سودانية: "ترى ماكو دوا إلا العراق، إلا العراق". كيف نصنع من العراق دواءً؟ لن يشفيك الحزن ولا الفرح، ولا الدموع تسترد بابل، ولا المهدئات والمسكنات تنسيكِ حب بغداد، لن تروي عطشك لرؤيتها ولا جوعك الذي لا يشبع إلا بطحين بابل، إن دواءك الوحيد هو العراق وعزاءنا الوحيد أننا لا نستطيع وضعه في قوارير.

 

اقرأ/ي أيضًا:

لا أكره سوى أيام الشتاء القصيرة

مئة محتال يلاحقونك