06-يونيو-2023
صورة من مخطوطات متحف الأمير تيمور في أوزبكستان

صورة من مخطوطات متحف الأمير تيمور في أوزبكستان

عندما تذكر لفظة "مثقّف" تكون لازمةً لحالة الثّقافة والوعي والتأثير، فقد جاء في كتاب العيْن للفراهيديّ، الثّـقْـف: الحذق والفطنة (الثقف مصدر الثقافة وفعله ثقف)، وهي في الوقت الحاضر كلمة تحمل شيئًا من الضبابيّة، فالمثقّف في أبسط تعريفاته هو ذلك الفطن الحذق الّذي يقرأ ويدرك ثمّ يدرك، ويستخدم إدراكه وفطنته في درء مظلمة، أو جلب منفعة خدمة للفرد والمجتمع والسلطة.

وإن كان المثقّف يعني الحذق والفطن فهذه الصّفات تتطلب حالات لحظيّة للتعرّف عليها، والغريب أنّ المثّقف -خاصة في أيّامنا- وجب أن يكون مميّزًا بانحيازه، فإذا انحاز للسّلطة أطلقت عليه أشدّ ألفاظ التعنيف مثل لفظة "مثقف سلطة" فعاش في رغد العيش المنبوذ، وإذا انحاز للشّعب في وجه السّلطة ناله ما ناله من سجن وتعذيب وتهجير منتظرًا التغيير، ذلك في حدود عالمنا العربيّ الحديث.

فذا انحاز المثقف للسّلطة أطلقت عليه أشدّ ألفاظ التعنيف مثل لفظة "مثقف سلطة" فعاش في رغد العيش المنبوذ، وإذا انحاز للشّعب في وجه السّلطة ناله ما ناله من سجن وتعذيب وتهجير

في التّاريخ العربيّ سنسير مع كلمة "مثقّف" بمعنى الحذق والفطن الّذي درء مقتلة عظيمة يمكن أن تحصل، وفي هذا يمكن إعطاء صفة المثقف لكلّ شخص استخدم عقله وفطنته، وتنازل عن كرامته من أجل درء حدث عظيم وما أكثرها تلك المواقف، وبعدها يمكن أن يقرّر الإنسان هل خان المثقف أم لم يخن، وهل ثمن البغلة كافٍ للخيانة؟  

في المقال سيقدّم لنموذجين من نماذج خيانة المثقّفين، النموذج الأوّل: صفي الدّين عبد المؤمن بن يوسف بن فاخر المويسيْقيّ. والنموذج الثاني عبد الرحمن بن خلدون، وإنْ كان الاسم الثاني معروفًا لدى الجميع، فإنّ الأوّل مغمورٌ في كتب التّاريخ، ومن يدري فربّما كان معروفًا في عصره فهو المغنيّ في زمن آخر الخلفاء العبّاسيين، وفي زماننا للمغنّي شهرة واسعة عن جميع الفئات، وقد جاء ذكر المويسقي في عديد من المصادر، منها: ما ذكره ابن حجّة الحمويّ في كتابه ثمرات الأوراق نقلًا عن كتاب مسالك الأبصار في الممالك والأمصار، وقصّته الشّهيْرة مع هولاكو قائد جيْش المغول الذي غزا بغداد في حدود عام (656هــ - 1258).

في الغزو المغوليّ لبغداد أتت جيوش التتار على بغداد فحرقت ونهبت وسرقت وهجّرت، فبغداد في تلك الفترة كانت حاضرة للمجون والرّقص والغناء، وفيها من النفائس والذهب ما فيها.

الدّرب وهو مكان إقامة بعض الميسورين في بغداد والّذي كان عرضة للنّهب والسّرقة، وكان  اجتمع صفي الدين المويسيقي مع عدد من الميسورين حوصروا من قبل جيش هولاكو، وكان لا بدّ أن ينجو هو ومن معه، فخرج المويسيقي إلى هولاكو وهنا كانت نقطة التّحول أي استخدام الفطانة والثقافة، ولو كانت على حساب الكرامة التي فقدت أصلًا بالتقرّب من القصر العباسيّ، حيث ذكر المويسيقي حالة فقدان الكرامة من أجل أن يبعد القتل عن الدّرب، وذكر عند دخوله لهولاكو: "فقبّلتُ الأرْض بيْن يديْه"، وبعْد أن قدّم له النّفائس والأشياء الثّمينة، أضاف المويسيقي: "فركب وقبّلتُ ركابه فرجعتُ".

وفي اللقاء الثاني ركب المويسيْقي بغْلةً قال في وصْفها: "وركبتُ بغلةً جليلةً كنت أرْكبها إذا رحْت للخليْفة". وفي اللّقاء الأخير جاء الذكر الآتي: "فلمّا وقعتْ عيْن هولاكو عليّ قبّلتُ الأرْض، وجلسْت على ركبتيّ، كما هو في عادة التّتار". وجاء أيضًا في اللقاء نفسه: "فقبّلْتُ الأرْض مرّةً ثانيةً، ودعوْتُ له"، وجاء أيضًا: "فقبّلتُ الأرْض وقلت دام الملك".

من الملاحظ في لقاءات المويسيقي تقبيل الأرض، وهو كما ذكر عادة الملوك التتر، ولكن ما حصيلة هذه الإهانات من قبل ذلك المغنيّ، كانت تلك الحصيلة تقديم كل ما يملك من مجوهرات وذهب ونفائس، وبعد أن طرب وشرب هولاكو قدّم للمويسقي بستانًا عظيمًا كان استولى عليه من الخليفة، وفي المقابل ظلّ حيًّا هو ومن كان معه في الدّرب.

الحالة مشابهة لابن خلدون مع تغيير في بعض التّاريخ والوقائع ومن كان في الدّرب، وهي الحالة التي دخل فيها القائد تيمورلنك إلى دمشق، وهو ما يعرف بالغزو التيموريّ للمناطق الإسلامية وخصوصًا لحلب وبلاد الشّام في حدود عام (803هـ - 1401). لن نحفر كثيرًا في حجر التّاريخ، لكن القائد تيمورلنك كما ذكر في كثير من المصنّفات بدت عليه ملامح الثّقافة والفكر وذلك أنه يعتنق الدّين الإسلاميّ، لكن العقليّة الحربيّة من دمار وتدمير بدت واضحة في جميع رحلات الغزو التي قام بها؛ إذ حرق ودمّر حتّى وصل دمشق، وهذا ما كان عليه هولاكو عند دخول بغداد. يبقى السؤال ماذا حدث عند دخول تيمورلنك دمشق؟

خلاصة ذلك أنّ والي المماليك أراد أن يسبق تيمورلنك في وصوله لدمشق، فرفض ابن خلدون الذّهاب، لكن قدّم له المال والعطايا، هذا ما ذكره ابن خلدون نفسه مع قائد جند السّلطان إذ يقول: "وأرادني على السّفر معه في ركاب السّلْطان، فتجافيْت عنْ ذلك، ثمّ أظْهر العزْم عليّ بليّن القوْل، وجزيْل الأنعام، فأصغيت وسافرت معهم". لعلّ هذه الحادثة نقطة تحوّل في إغراء المثقف ليكون قريبًا من السّلطة. ولمّا وصل ابن خلدون وأحس ومن معه من قضاة الشام بخطر تيمورلنك أراد أن يتقدّم له وفق المفاوضات حتى لا يكون الدّم كثيرًا والخراب وفيرًا، ويصف ابن خلدون اللقاء الأول بشيء من الخضوع، إذ يقول: "فلمّا دخلْت عليه فاتحته بالسّلام، وأوميْت إيماءة الخضوع، فرفع رأْسه، ومدّ يده إليّ فقبّلْتها، وأشار بالجلوس فجلست حيث انتهيْت".

وجد تيمورلنك ابن خلدون عارفًا ومدركًا في أمورٍ متنوعة من المعرفة، لذلك أظهر الودّ والاحترام له حتّى أنّه طلب من ابن خلدون تأليف كتاب عن بلاد المغرب

بعد الخضوع وجد تيمورلنك ابن خلدون عارفًا ومدركًا في أمورٍ متنوعة من المعرفة، لذلك أظهر الودّ والاحترام له حتّى أنّه طلب من ابن خلدون تأليف كتاب عن بلاد المغرب: "أحبّ أنْ تكتب ليْ عن بلاد المغرب كلّها أقاصيها وأدانيها، وجباله وأنهاره وقراه وأمْصاره، حتّى كأنّي أشاهده".

الودّ والتقدير لم يدم كثيرًا فقد سمع ابن خلدون ما فعل تيمورلنك بقاضي قضاة الشّافعيّة، وقد وصف المؤرخ ابن عربشاء ذلك المشهد: "فعنْدما أحضر هذا القاضي بيْن يديْ تيمور جلس منْ غيْر استئذان متعاليًا على رفاقه، فأمر تيمور بسحْبه على الأرض كما يسحب الكلْب، ومزّقت ثيابه، وأهيْن وضرب". وهنا يمكن القول إنّ ابن خلدون سيطر عليه الخوف، لذلك تعامل مع تيمورلنك معاملة الخائف، يقول ابن خلدون: "وقدْ غلبني الوجل بما وقع منْ نكْبة قاضي قضاة الشّافعيّة صدْر الدّين المنّاويّ... فأصابني منْ ذلك وجل، فزوّرْت في نفسي كلامًا أخاطبه به، وأتلطّف بتعظيم أحْواله وملْكه"، ومن أقول التلطف التي ذكرها ابن خلدون في حضرة تيمور: "... لأنّك سلطان العالم، وملك الدّنيا، وما أعتقد أنّه ظهر في الخليقة منذ آدم لهذا العهْد ملك ٌمـثلك"، وبعد التلطف بالقول كان التلطّف بالهدايا؛ إذ أهدى ابن خلدون للملك تيمور مصحفًا، وسجّادة، وقصيدة البوصيريّ في مدْح الرّسول عليه الصّلاة والسّلام، وأربع علب حلْوى فاخرة.

أمّا البغلة التي تعدّ أيقونة خيانة المثقف والانصياع وراء السّلطة، فيبدو أنّها كانت حيلة من تيمورلنك لإغداق ابن خلدون بالمال بطريقة غير مباشرة، فقد جاء في حوار تيمورلنك لابن خلدون: "وقال: عندك بغْلةٌ هنا؟ قلْت: نعم. قال: حسنة؟ قلت: نعم. قال: وتبيْعها؟ فأنا أشتريْها منك. فقلن أيّدك الله: مثلي لا يبيع مثلك، وإنّما أنا أخدمك بها.. فقال إنّما أردت أن أكافئك عنها بالإحسان.. وسكت وسكتّ، وحمّلت البغلة، وأنا معه في المجلس إليه ولم أرها بعد".

ليس دفاعًا عن بغلة ابن خلدون، لكن المثقف الحذق الذي يغير السلطة بآرائه تغيره السلطة بماله وهباتها، ولا فرق بين المويسيقي الذي أنقذ حياة من معه في الدرب بما يملكه من مال ومجون، وبين ابن خلدون الذي أنقذ من معه في دمشق من علماء بما يملكه من معرفة. ولا فرق بين بغلة المويسيقيّ وبغلة ابن خلدون، سوى أنّ بغلة بن خلدون ذهبت أيقونة لخيانة المثقفين.