04-فبراير-2022

من المعرض

كمشتغل في الكتابة، أعرف جيدًا أنني أستطيع الدخول إلى الفكرة من ثقب إبرة. لكنني ما أن أدخل فيها حتى أتحول كائنًا معذبًا لا يقوى على الأنين. أستعجل الخروج من هذا النفق البارد والمظلم والموحي بنهاية تامة وناجزة. أحيانًا أخرج قبل أن تتم الفكرة لعبتها ودورتها. أتركها لنفسها، للقارئ، لنفسي، إذا ما كان لدي الجرأة مرة أخرى أن أعود إليها وأحاورها بالأسنان والعظام، فيما هي تحاورني بالوخز والطعن.

في معاينة أعمال فاطمة مرتضى عن قرب وبعين متفحصة. ثمة في هذه الأعمال ما يشبه الدعوة إلى نفق. تدعوك إلى مكان لا سلطة لحواسك عليه

لا أجزم أن كل كاتب يدخل عالم الكتابة على النحو الذي أدخل شخصيًا إليه، وأقر أن بعض الكتابات التي أكتبها تشبه الطرب، جذلة وممتعة، لي شخصيًا، وأحيانًا لا أرغب في أن أنهيها. لكنني في الغالب الأعم أدخل إلى الفكرة لأبارزها، ولم يحدث مرة أن خرجت من نفقها رابحًا أو راضيًا.

اقرأ/ي أيضًا: معرض فاطمة مرتضى.. كالناظر إلى مقبرة

كقارئ، ثمة كتب كثيرة أتردد طويلًا قبل إكمالها أو الغوص فيها. ورغم أن القراءة تشبه غالبًا فعلًا ساديًا، بمعنى أن القارئ قد يجد متعة فائضة في مراقبة عذاب الكاتب ومعاناته، كما يحدث وأنت تقرأ "الخبز الحافي" لمحمد شكري مثلًا، أو "موسيقى الحظ" لبول أوستر، لكن بعض الكتب مضنية إلى درجة أود لو أني لم أباشر قراءتها أصلًا. إنما يمكن القول إن القراءة سهلة التناول، وإن امتلاء ما يعقبها، ومن شأنه، أي هذا الامتلاء، أن يعينك على صعوبات الحياة والكتابة في آن.

أسوق هذا كله في وصف أحوالي، وأنا أتردد مرة بعد مرة في معاينة أعمال فاطمة مرتضى عن قرب وبعين متفحصة. ثمة في هذه الأعمال ما يشبه الدعوة إلى نفق. تدعوك إلى مكان لا سلطة لحواسك عليه. أنت ترى ولا ترى، تميز أنك تخطئ، تكتشف اللون لكنه ليس لونًا وطلاء بل ملامس، وحين يقترب من اللون يكون حريقا، لا أتحدث مجازًا، إنها تشكل قلبًا محروقًا وتعين حدوده بالنسيج.

حسنًا ها قد وصلنا إلى النسيج. المادة التي تحب فاطمة العمل عليها. ما تسوقه من حجج لاعتماد هذه المادة جميل وموح، ومعبر. إنما سأحاول تجاوز همومها منتقلًا إلى همومي. ذلك أن الكتابة عن معرضها لا تشبه من أي باب تقييمه، ومنحه الدرجات والألقاب. أنت تدخل إلى عمل فني قد يؤذيك، وعليك أن تكون مستعدًا. ما الذي رأيته في استخدام القماش كملوّن في أعمالها التشكيلية؟ هذا قد يجوز أن نسميه قلبًا لمفاهيم بعض الفن التشكيلي، هي لا تعري شخوصها في اللوحات، بل تسترها. هل يكفي هذا لقلب تلك المفاهيم؟ شخوصها لا تفصح عن جلد، بل عن أحشاء. لماذا تسترها إذًا؟ لأن الأحشاء، كما أحسب، أجدر أن تغطى من الجلد الأملس.

أن تنظر إلى صدر إحدى شخصيات فاطمة مرتضى المثقوب، فهذا يعني أنك لن تتمالك قلبك، وعليك أن تتحسسه، لتدرك أنه ينبض بقوة ومن دون هوادة

اقرأ/ي أيضًا: فاطمة مرتضى تشكّل بالخيط والنار ألوان أيامنا

ظهور الجلد الأملس يرافقه ادعاء: ادعاء بالحسن، بالغواية، بالحرية، بالفردية. الأحشاء على العكس، تجعلنا متماثلين بالوجع ومتفردين في مكابدته. مرضى، إن جازت العبارة، ليس لأننا بلا جلود، بل لأن ما نريد التعبير عنه يقع تمامًا في موضع الوجع. والجسم الأملس العاري لا يستطيع الادعاء أبدًا أنه يظهر موضع الألم. الجسم الأملس العاري هو تكذيب للألم ونفي له إلى الأحشاء. ظهور الجسم الأملس العاري على لوحة أو في صورة يعني أنه صحيح ويعيش في صمت أعضائه. الأعضاء تشمل أيضًا حزننا وفرحنا وشعورنا بالفقد، والجسم الذي يُظهر أحشائه تحت ما يستره من نسيج، هو الجسم الذي يعيّن وجعه ويحدد موقعه بالضبط، ليسمح لك أن تشير إلى وجعك. أن تنظر إلى صدر إحدى شخصياتها المثقوب، فهذا يعني أنك لن تتمالك قلبك، وعليك أن تتحسسه، لتدرك أنه ينبض بقوة ومن دون هوادة. القلب المفقود في هذا الصدر المفقود، هو قلبك، رغم أن فاطمة مرتضى تريد لنا أن نظن أنه القلب المحروق في اللوحة التالية.

هل تطمح هذه المقالة إلى بناء نص نقدي عن عمل فني؟ أبدًا. إنها توصيف لرحلة قصيرة. رحلة في أعمال فاطمة مرتضى، تشبه في مسارها وتعرجاتها وآلامها رحلة الدخول إلى هذه المقالة، والألم الذي يرافقها، ورغبتي الملحة في أن أخرج من كتابتها سالمًا. 


تقيم الفنانة اللّبنانيّة فاطمة مرتضى معرضًا، في غاليري "إل تي" في بيروت، تحت عنوان "صعود إنانا"، حيث يستمر حتى العاشر من شباط/فبراير الجاري.

 

اقرأ/ي أيضًا:

شذا شرف الدين تعرض لامبالاتنا

معرض جنان مكي باشو.. الهجرة التي لن تنتهي