18-أبريل-2017

جاسم محمد/ العراق

من بين مئات المؤلفات له فيها ما له ونسب إليه منها ما نسب وحرّف فيها ما حرّف؛ عُرف بمجملها كواحد من أهم فلاسفة الحركة الروحية الإسلامية في عصره والعصور التي تلته على مدار قرون، حتى تخصص في إنتاجه مريدون لفلسفته على مر الزمن، وأنشئت على عتباتها مراكز بحثية، ومع ذلك لم يُحقق أو يُطبع من معظم ما أنتج إلّا القليل، وبقيت كثير من مؤلفاته بلا تحقيق أو طباعة. 

قدمت "الفتوحات المكية" لابن عربي فلسفة جامعة ومؤسسة و"عالمية" للحركة الروحانية

هو محيي الدين بن عربي، أو الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر كما يُسميه مريدوه، أو ختم الولاية المحمدية كما ألمح في كتابه الموسوعي "الفتوحات المكية".

اقرأ/ي أيضًا: نزع الطرح الجبري والسلطوي عن "الحاكميّة"

وفي الفتوحات المكية التي تعددت طرق تحقيقه وطباعته، وقيل إنه زيد فيه ما ليس به، أو نقل عنه ما ليس فيه، وذلك منذ العهود الأولى له كما قال الشعراني؛ يتحدّث ابن عربي عمّا يمكن الإشارة إليه كفلسفة جامعة ومؤسسة و"عالمية" للحركة الروحانية، لذا فإن أغلب إنتاجه كالكتاب الواحد يتنقل بين عناصره هنا وهناك في منظومة متحدة لها بناؤها العضوي في المنهج والرمزية.

وفيما يَروي ابن عربي عن الفتوحات المكية أنّه مما فُتح عليه به، ثم أذن له بكتابه، بعد رحلة مجاوَرَة للبيت الحرام في مكّة؛ إلا أن ثمةّ جزءًا آخر من الحكاية مطموسًا أو تائهًا بين رفوف أعماله مما فُتح عليه به في مجاورته للنبي محمد في المدينة المنورة، أو كتاب "الفتوحات المدنية".

"المشرقات الإلهية في الفتوحات المدنية"

يأتي كتاب أو رسالة الفتوحات المدنية، في أقل من 10 ورقات مخطوطة، كل ورقة على صفحتين. وعلى غير عادة كثيرٍ من مؤلفات ابن عربي، فليس هناك ذكرٌ للسبب الداعي إلى تأليفه الرسالة، أو ربما سقطت في نسخة المخطوط الوحيدة المتوفر وفقًا لما وقفنا عليه.

"المشرقات المدنية في الفتوحات الإلهية"، هكذا عُنونت الرسالة وعُرضت باسم "الفتوحات المدنية" في المجلد الثاني لموسوعة "كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون" للحاجي خليفة، والموضوع في القرن الحادي عشر الهجري، وهو كتاب موسوعي بمثابة دائرة معارف تُصنّف لأكثر من 15 ألف عنوان لكتاب ورسالة بالعربية والفارسية والتركية.

وفي ذكر الفتوحات المدنية لابن عربي لم يأت إلا القليل، وربما ذلك لاشتهار "الفتوحات المدنية" لقضيب البان، وهناك من يقول إن الرسالة ليست لابن عربي أساسًا، لكن قراءة مقارنة بين الفتوحات المدنية لابن عربي وغيرها من مؤلفاته الثابتة، تكشف عن روح نص ابن عربي برموزه وبنائه العضوي الواحد في جميع مؤلفاته، وهناك أيضًا منهجيّته العامة، التي يمكن استيضاحها في المقدمة التي يورد فيها -كعادته غالبًا- ذكرًا لمعتقده المعرفي من خلال الحمد والثناء على الله، ثم الصلاة والسلام على رسول الله.

المخطوط الذي بين أيدينا لفتوحات ابن عربي المدنية، بتحقيق فارسي لجواد جعفريان، حيث يورد في المقدمة المَصادر التي جاء فيها ذكر الفتوحات المدنية منسوبةً لابن عربي، فنجدها مصنفةً في كتاب "مُؤلفات ابن عربي" لعثمان يحيى بتحقيق أحمد الطيّب شيخ الأزهر، وفي كتاب "عقود الجوهر في تراجم من لهم خمسون تصنيفًا فمئة فأكثر" لجميل بن مصطفى العظم، وفي كتاب "كشف الظنون" للحاجي خليفة كما ذكرنا، وفيه يُشير إلى أن مقدمة الفتوحات المدنية هي: "الحمد لله الذي جعل الإنسان خلاصة مملكة الكيان... إلخ"، وهو ما يتطابق بالفعل مع المخطوط الوارد.

اقرأ/ي أيضًا: التراث الصوفي وتجديد الخطاب الديني

وفيما يخص كاتب المخطوط فهو الشيخ رسوخ الدين إسماعيل بن أحمد الأنقروي أو الكنغراوي، خطّها في القسطنطينية حيث كان يعيش ويعمل معلمًا وقاضيًا، وذلك عام 1293 هجرية، وعليه تكون النسخة المتوفرة والمحققة من فتوحات ابن عربي المدنية مخطوطة بعد وفاته بنحو 655 عامًا. 

ومما قد يُجهل عن ابن عربي –أو ربما هو مما يُنسب إليه- تعدد مصنفاته المعنونة بالفتح أو الفتوحات، فهناك الفتوحات المكية، والفتح المكيّ، والفتوحات المدنية والفتوحات المصرية والفتح الفاسيّ، وجميعها ما عدا الفتوحات المكية، وككثير مما يُنسب لابن عربي، مشكوك في نسبته إليه، كون أوّل المخطوطات الواصلة إلينا منها تعود لأزمنة لاحقة على ابن عربي ربما بمئات السنين، كما هو الحال في الفتوحات المدنية، وعليه يُختلف أصلًا فيما يُنسب لابن عربي من مصنفات تصل إلى 800 مصنّف، وما بين أكثر من 500 عدّها عثمان يحيى، وما بين 200 مصنف وفقًا لسعاد الحكيم، حتّى أن بعضًا ممن يدرسون نصوص ابن عربي، يلجؤون إلى تحليل النص ومقارنة عناصره الأبرز بنصوص مُثبتة لابن عربي للتحقق من صحة نسبته له.

وفيك انطوى العالم الأكبر 

يمكن المجازفة بالقول إن جوهر مضمون الفتوحات المدنية يكمن في مقدمتها، وعلى هذا المنوال بدرجات أقل تدور حلقة مؤلفات ابن عربي. وكما ذكرنا يعرض لاعتقاده المعرفي في المقدمة من خلال الحمد والصلاة، قبل أن يدخل إلى متن الرسالة، ومتن رسالته هنا يغلب عليه الطابع الوعظي، ويتضح أنه كتبها أو قالها أول مرة في شهر رمضان أو في استقباله، لأنه يتحدث فيها، بانتقالٍ ما بين الوعظي والمعرفي، عن فضائله ثم الأسرار الروحانية للصيام، والأسرار الجسدية له.

لكنه في المقدمة يتحدث عمّا يبدو أنها قضية أخرى، وإن كانت منهجيّة ابن عربي مكتوبة في رقع واحد كبير، يُقدم للمتن العام ويختم للمقدمة العامة التي هي تذكير بالمعتقد، ويُمتن لكليهما على ثلاث مستويات أساسية؛ الأول الظاهر، وذلك بالوعظ أو الشرع والفتوى والحكم، والثاني ظاهر الباطن، وذلك بالفوائد والأسرار النفسية وربما الفسيولوجية، والثالث باطن الظاهر، وذلك بالأسرار والفتوح الروحانية. ويقال إن ثمّة مستوى رابعًا وهو باطن الباطن، وذلك بالرموز التي إن عُلمت على ظاهر معناها كانت تخيلات لا حاصل لها، أو كما قال السهروردي هي في حفيف أجنحة جبرائيل.

ويتحدث ابن عربي في مقدمته عن تعظيم الإنسان بصورته الكاملة، فهو "خلاصة مملكة الكيان وزهر شجرة الحيوان وتلخيص كتاب الأكوان". وفي كل كلمة لدى ابن عربي، قبل المبنى معنى، فهو حين يقول إن الإنسان -يقصد الكامل- هو خلاصة مملكة الكيان جلها، فهو يقصد ذلك اعتقادًا معرفيًا يطرحه في البدء بفرضية "يقينية"، قبل أن يسهب في شرح عمائدها. وهو يفعل حين يُشرّح الإنسان عضويًا ونفسيًا بالمقاربة بالكون وطبقاته وظواهره، ليحقق بالدليل مقولة: "وتحسب أنك جرمٌ صغير وفيك انطوى العالمُ الأكبر"، وليأتي بالمزيد في سياق نظريته عن "إله المعتقد" التي تنطبق بالرسم في الإنسان كصورة كاملة -غير متحققة دائمًا- للعالم الأكبر.

وعليه يقول: "فما في العالم شيءٌ مرئي بالعيان، أو غائب متصورٌ في الأذهان، إلا وهو مندرج في درج ذاته"، أي الإنسان، ثُم يُسهب في شرح فرضيته، فيُشير للضياء والنور والظلمة في الكون، واللطافة والكثافة والرقة، وكيف قُسّمت هذه الأحوال على الملائكة التي جعل النور من حظّها، والحور التي جعل الضياء من حظها، والحيوانات بكثافتها والهواء بلطافته، وجميعها صُوّرت في الإنسان، "فجعل الضياء حظ الوجه والنور حظ العين والظلام حظ الشعر واللطافة حظ الروح والكثافة حظ العظام"، أو كما قال.

يُشرّح ابن عربي الكون المنظور والغيبي، ويُقاربه بالإنسان وهيئته وتركيبه

ويُقسم ابن عربي طبيعة المادة إلى أربعة عناصر، هي العناصر التقليدية التي ترجع بالتاريخ إلى عصر الفلسفة اليونانية، وتشترك في ذلك مع الفلسفة الصينية والهندية، ويعتبرها البعض بمثابة اللبنة الأولى للجدول الدوري للعناصر. وهذه العناصر الأربعة هي التراب والماء والنار والهواء، ويقابلها في الإنسان أربع طبائع هي الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة، "فلما جمع الله في خلق الإنسان هذه المتضادات بالغ في الثناء على نفسه فقال: فتبارك الله أحسن الخالقين"، هكذا يقول ابن عربي.

اقرأ/ي أيضًا: في ذكرى وفاته.. ماذا قال الأبنودي عن ابن عروس؟

ويُشير إلى الأبراج الاثنتي عشر في الكون وما يقابلها في الإنسان، وكذلك مع منازل القمر الثمانية والعشرين، ومع الفصول الأربعة، وجغرافيا الأرض. ولا يتوقف الأمر عند ذلك، بل يُجاوزه إلى بيان المقاربة بين تركيب الإنسان والغيب المعلوم، فالإنسان في فتوحات ابن عربي المدنية "قلمٌ من جهة ترجمة النطق، ولوح محفوظ من جهة مجموع الحِكَم، ومَلَكٌ من جهة المعرفة، وشيطان من جهة المكر".

وعلى هذا المنوال يُشرّح ابن عربي الكون المنظور والغيبي، ويُقاربه بالإنسان وهيئته وتركيبه، مُنطلقًا من آية "فتبارك الله أحسن الخالقين"، لتأتي في ظل نصه كاشفةً عن معنى موظف في إطار مفاهيمه ومعتقده.
وإذا كانت فلسفة ابن عربي واحدة، مقسّمة على مئات المُؤلفات، فيمكن القول إنّه في الفتوحات المدنية يُقدّم عرضًا تفصيليًا لمفهوم وحدة الوجود بين العالم والإنسان "الكامل"، تمثلًا للمقولة المنسوبة لعلي بن أبي طالب: "وتحسب أنك جرمٌ صغير وفيك انطوى العالم الأكبر".

 

اقرأ/ي أيضًا:

مصر.. طبقات أشعار الدراويش

الموالد.. بين الدولة والسلفيين والمثقفين