01-يونيو-2017

تنشط الحركة الاقتصادية والسهر في ليالي رمضان الجزائرية (فاروق بعطيش/أ.ف.ب)

ورثت المدينة الجزائرية عاداتٍ كثيرةً عن مرحلة العنف والإرهاب، في تسعينيات القرن العشرين، منها عادة النّوم باكرًا. إذ يصعب أن تجد حافلة أو قطارًا أو مطعمًا أو مقهى على قيد الخدمة، بعد العاشرة ليلًا. بل إن هناك مدنًا تنام قبل ذلك بساعتين، "ولئن كان الأمر مبرّرًا في التسعينات، بحكم حظر التجوّل وحالة الطوارئ والخوف من الموت، فما مبرّر استمرار ذلك في زمن السّلم والمصالحة؟" يسأل الجامعي والمسرحي مهدي حاجّي.

في شهر رمضان، لا تمر ساعة على موعد الإفطار حتى تدب الحياة في أوصال الشوارع والساحات بما يجعل ليل الجزائر ينافس نهارها في الحركة

يرصد مهدي حاجّي لـ"الترا صوت" عوامل نوم المدن الجزائرية ليلًا بالقول: "توقف منظومة النّقل مع غروب الشمس، وغلق المحالّ التّجارية، خاصّة تلك التي لها علاقة مباشرة بسهر النّاس، واستفحال سلطة صعاليك الليل ومتشرّديه". ويضيف: "كلّها أسباب مقدور على التخلّص منها، لو كانت الحكومة تريد ذلك. فهي قادرة على إصدار تعليمات صارمة للنّاقلين والتّجار والأمنيين، تقضي بالتّواجد ليلًا، على الأقل إلى منتصفه، لكنّها لا تريد".

اقرأ/ي أيضًا: رمضان الجزائر.."ضيف خفيف" بعادات وأطباق متميزة

من جهته، يبدي الرّياضي ياسين فضيل اندهاشه من الوضع: "لا أفهم أننا نشكو من البطالة من جهة، ونوقف المتاجر المختلفة عند الغروب من جهة أخرى، إذ كم يدًا عاملة ستجد فرصة للشغل لو كانت مدننا لا تنام باكرًا؟ مع الإشارة إلى الحرمان الذي يعيشه الجزائريون بسبب هذه العادة غير المبرّرة". يسأل: "ما معنى أننا نجد أنفسنا ملزمين بأن ننام وفق توقيت نوم الدجاج القروي؟ ما معنى ألا يسمحوا للسوّاح الأجانب بأن يأتوا إلينا، من خلال غياب الهياكل والظروف، ثمّ لا يوفّرون المناخات اللازمة التي تجعلنا نحن المواطنين نتفسّح ليلًا؟".

غير أنّ حلول شهر رمضان يجعل هذا الواقع مختلفًا تمامًا، فما إن تمرّ ساعة على موعد الإفطار، علمًا وأنّ الفارق بين أوّل مدينة جزائرية تفطر وآخر مدينة أربعون دقيقة، حتى تدبّ الحياة في أوصال الشوارع والسّاحات العامّة، بما يجعل ليل الجزائر ينافس نهارها في الحركة.

وتأتي الجزائر العاصمة في صدارة المدن الجزائرية نشاطًا خلال ليل "سيّدنا رمضان"، كما يسمّيه الجزائريون، تمامًا كما هي في صدارة المدن التي تنام باكرًا خارجه. يقول الشّاب محمد شريفي: "لم يعد متاحًا لنا أن نتذوّق ليل العاصمة إلا خلال رمضان، فالمحالّ التجارية مفتوحة والشّوارع مضاءة والنّقل متوفّر والأمن مستتب، وهو المناخ الذي يجعل الأسرة تخرج بعيدًا عن التوجّس، أو الخوف من الوقوع في حرج معيّن".

من أعالي المدينة في بوزرّيعة، إلى أسفلها في باب الواد، عبر شوارع ديدوش مراد والعربي بن مهيدي وساحة الشّهداء، تختلط أصوات النّاس، خاصّة ضجيج الأطفال وهم يلعبون، بأصوات مقرئي القرآن، إذ من عادة المسجد الجزائري أن ينقل صلاة التّراويح عبر مكبّرات الصّوت، فتتشكّل حالة رائعة تمنح المدينة روحًا ونكهة خاصّتين. يضيف محمّد شريفي: "كلّما دبّت الحركة في المدينة، كلّما قلّت مظاهر العنف وتراجعت سلطة روّاد الليل".

تعد الزيارات العائلية من أكثر مظاهر انتعاش الليل الرمضاني في الفضاء الجزائري، حيث تبدع النساء الجزائريات في الترتيب لذلك

نجد الانطباع نفسه لدى الفنّان التّشكيلي منير غوري، فيما يخصّ مدينة عنّابة، 600 كيلومتر إلى الشّرق من الجزائر العاصمة. يقول: "لقد فشلنا في الوصول إلى حياة جزائرية مبرمجة على الحركة لا الخمول، وعلى الصّحو لا النّوم، وعلى الاجتماع لا التنافر، وعلى التعايش لا العنف، وعلى السّياحة لا الانغلاق، وعلى البهجة لا العبوس، ممّا أوقعنا في حالة خطيرة من الرّوتين، ووحده شهر رمضان بات يُحدث فينا حالةً من التّغيير والإحساس بروح مدننا".

اقرأ/ي أيضًا:  مطاعم الرحمة.. تكافل جزائري في رمضان

هنا، يشير منير غوري إلى أنّ الجزائري يتخلّص من ثقافة التذمّر من المكان الذي يقيم فيه، بمجرّد حلول شهر رمضان، حتى أنّه يعود إليه إذا كان بعيدًا عنه، "لأنّ جرعة تواصله مع النّاس، خاصّة خلال السّهرات، تصبح في هذا الشّهر أكبر منها في الشّهور الأخرى، حيث يكون الليل عنده مرتبطًا بالهروب إلى النّوم". يختم: "مدننا جميلة جدّا وقادرة على أن تخلق فينا، وفي من يزورها من الأجانب حالاتٍ رائعة من الفرح، فلماذا هذه الاستقالة المعنوية لدى الحكومة والمجتمع المدني معًا، من توفير الأجواء التي تجعل هذا الفرح ساري المفعول طيلة العام؟ لماذا لا نستفيد من تجربة جيراننا التونسيين في هذا الباب"؟

وتعدّ الزّيارات العائلية، من أكثر مظاهر انتعاش الليل الرّمضاني في الفضاء الجزائري، حيث تبدع النساء الجزائريات في الترتيب لذلك، من خلال الحلويات التقليدية، مثل البقلاوة والقطايف والمقروط والغريبية، وجملة من العادات والطقوس. تقول الممثلة جميلة بحر: "يقال في الإرث الدّيني إن العفاريت يظلون طلقاء حتى إذا دخل رمضان قيّدوا، وأنا أقول إن الجزائريين يظلون مقيّدين، حتى إذا دخل رمضان انطلقوا". تسأل: "لماذا بات ظهور حلوياتنا وألعابنا وألبستنا الشعبية وعاداتنا وطقوسنا مرتبطًا بدخول شهر رمضان؟ لنكون في غيره من الشّهور بلا هوية ولا ممارسة للفرح تقريبًا؟"

 

اقرأ/ي أيضًا:

زلابية بوفاريك.. سلطانة الجزائريين الحلوة

رمضان الجزائريين.. أرصفة محتلة