20-نوفمبر-2016

حسن دهيميش/ ليبيا

المقهى دافئ جدًا، وجوه مبتسمة، ملابس صوفية، كراس مريحة، طاولات منخفضة قليلًا، هي أساسًا لشرب القهوة وليس للكتابة، معي روايتان مصريتان ضخمتان "نادي السيارات" و"ربع جرام"، وضعتهما فوق بعض، "نادي السيارات" تحت، "ربع جرام" فوقها، ووضعت فوقهما اللابتوب، لأحصل على العلو المناسب، الذي يجعلني أرقن براحة دون إحناء رأس، كالعادة أرقن بوسطي يدي اليمنى، بينما إبهام اليسرى يقوم بعملية ضغط "shift"، المعطف القصير ألبسته لمسند الكرسي خلفي، بينما الفانيلة الصوفية خلعتها وجلست عليها، الآن أنا في تي شرت أسود على اللحم، وأشعر بدفء شديد، من الوجوه المبتسمة، والقهوة الساخنة، وأشياء أخرى لا أدري ما هي. 

بالأمس قال لي الطبيب، عندما ترتفع حرارتك فوق المعدل لا تتناول أقراصًا، فقط كشّر، قطّب، لا تبتسم إطلاقًا، وسترى أن الحرارة قد انخفضت، وإن شعرت بالبرد قم بالعكس، ابتسم وابتسم وابتسم، وإن تأخرت النتيجة فقهقه، ألم ترَ كيف أن المقهقهين في الشوارع رغم أن درجة الحرارة تحت الصفر، إلا أنهم دافئون، لا تقل لي بفعل الخمر، إنه بفعل الضحك الابتسام القهقهة، مقياس الحرارة يرتفع بالضحك، ينخفض بالتكشير، وماذا عن البكاء، إذن، قال لي: البكاء.. آه البكاء، تقصد البكاء، الذي يصحبه دموع، تلك حكاية أخرى، ذاك لا علاقة له بالبرد والدفء، ذاك يتبع الألم، نتألم نبكي، حتى الفرحة هي ألم، هل سألت نفسك لماذا فرحت؟

بكى من الفرحة خطأ، فلنقل بكى من الألم، كل الملح الذي نتناوله يذهب إلى هناك، حيث الرأس، لولا الملح لتعفن الرأس، الدموع تمتص منه الجزء الأكبر، أو فلنقل نصيب الأسد، في رأسك غابة طبعًا، بها أشجار وورد وفراشات وقرد ينط أيضًا وزرافة وفأر وأرنب وحمار، أيها الحمار، وكذلك أسد، ها أنت تبكي الآن، ماء به ملح وحرارة، خدك يسميها دفء، بينما منديلك يسميها بلل، عليه أن يمتصه، ليعيش، ليعود إلى موطنه الأصل، حيث القمامة، حيث يلتقي بمناديل أخرى في المكب الرئيسي، مناديل ملوثة بكل شيء، يتقارب معها، يقايضها دمعة بقطرة عسل، مناديل ملوثة تقايض ما ينقصها، لتعيش قليلًا، قبل أن تحرقها جهنم، معظمها ينجو من المحرقة، يدخل في إعادة تدوير مادة خام جديدة، يصنع منها شيئًا نستعمله من جديد، قد لا نعرف أصل هذا الشيء، هذا الكوب الورقي أو هذا الصحن الذي نتناول فيه طعامنا، نعم هو نظيف الآن، لكن هل تاريخه نظيف أيضًا، ذاكرة المنديل تعرف، تعرف ما مسح بها قبل إعادة تدويرها من جديد، ودخولها إلى المنتج الجديد كعنصر رئيس، كل العالم الآن ملوث، كله منديل تم المسح به عدة مرات، تعال معي إلى الخارج، الآن المطر ينهمر، سأغسل وجهي، ثم أقف في مواجهة الريح تحت المظلة لأجف، ثم أدخل إلى المقهى من جديد، أنا الآن بارد، وعلي أن أبتسم لترتفع حرارتي من جديد، إلى المعدل الطبيعي، لن أفرط في الابتسام حتى لا أتوجه، الآن تمام، طلبت قهوة أخرى، على سطحها ظهر قلب حب، ماكينات قهوة جديدة تفعل ذلك، أزلته بنفخة، لكن ما زالت آثاره باقية، حركت آثاره بالملعقة، أيضًا لم يختف، ما هذا القلب العنيد؟ 

بدأت أرشف من الفنجان، في كل رشفة يهبط إلى أسفل ويدفع لمحرقة الفم بالبن والماء، ما هذا القائد الذي نراه وكل ما يقترب من الشفاه يتأخر؟ هل هو ثقيل إلى هذا الحد؟ أعتقد أنه خفيف جدًا، ظهوره على السطح يقول إنه أخف من الماء والبن، ولكن ربما ظهوره على السطح كان بفعل آخرين يرفعونه إلى أعلى، وعندما يقترب منه الخطر يقفز أو يغوص إلى أسفل، أنا وراه وراه، بدأت أتحايل عليه، أضع الملعقة أسفل منه وأرفعه قليلًا، وفي لحظة الرشف يتملص كزئبق على سطح مصقول جيدًا. 

أنا لا أريد أن أشرب قائدي، أريد أن أرشف دون أن يظهر لي في الأعلى، لقد دخل القادة حتى مزاجنا، قهوتنا، نعم نحبهم، لكن ليس إلى هذه الدرجة. واصلت الرشف، وفي كل مرة يغوص، وعندما نفد الفنجان، وجدته في الأسفل نائمًا على حثالة البن، قلت سأجري تجربة، سقيت الحثالة ببعض الماء، فنهض من جديد وصار على السطح، شربت الماء الذي سكبته على الحثالة، فغاص من جديد ونام على السطح، أفضل شيء كي أرتاح أن أبصق عليه، بصقت عليه، لم يرتفع، بصقة واحدة لا تكفي، لقد كان ريقي ناشفًا بعض الشيء، بدأت ألعب بلساني في فمي كمراهق، لجمع كمية أكبر من البصاق ترفع قائدي هذا الثقيل، بعد دقائق جمعتها، صار حنكي منفوخًا كمُخزن قات، بصقت ما في فمي في الفنجان، ارتفع إلى أعلى رغما عنه وسط الفاقيع، لكن ليس فوق السطح تمامًا، لقد بدا لي كالغريق، كالغريق الذي يستنجد، أحيانًا تظهر قمته، وأحيانًا حضيضه.

أمسكت بالفنجان من أذنه، وصرت أستمتع، وزبائن المقهى رغم أنهم غير فضوليين، لكن تصرفاتي أجبرتهم على المتابعة، بعد دقائق جاءت الشرطة ومعها طبيب، طبيب يعرفني جيدًا، قال لي مرة أخرى ظهر لك القائد ودفنته، قلت له نعم، لكنه لم يمت، إذن أنا بريء، قل للشرطة تذهب، وأيها النادل، هات فنجان قهوة آخر، ومعه قطعة بسكويت أو شوكلاتة، ريقي مر، مر، سكر الدنيا لن يحليه، قال لي النادل، دعك من السكر، من الشوكلاتة، ما رأيك بابتسامة؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

من دفتر يوميات الموتى

القناع الثالث: الحياة