08-ديسمبر-2015

حينما تؤمن بالثورة لا يمكن لك إلا أن تحيا بالتفاؤل رغم النكبات(عمرو صلاح الدين/الأناضول)

طيلة المدة الأخيرة، كنت كطفل عنيد يريد أن يخفي وجهه عن المرآة التي تغطّي جدران غرفته، لعلّها تغيب عنه. لقد كنت، والحقّ لا أزال، كرجل يجري في كابوسه من شبح يلاحقه أينما ولّى، وحتى إن استفاق يصيح كالمجنون هلعًا وطلبًا للنجدة. كلّما وجدت خبرًا أو مقالًا أو صورة تتعلّق بمصر، كنت أحاول فيما مضى ولا أعلم إن كان كذلك فيما بقي، أن أتجاوز بسرعة وأن أتغاضى عما أراه، ولكن كنت أفشل في كلّ مرّة. تدريجيًا، يكبر الهمّ، ويزداد الوجع، ويكثر الأنين، وربما لا أجد فعلًا أو قولًا يجعلني أستكين، إلا الحوقلة، كعجوز كبرت همومه، فيقول لا حول ولا قوة إلا بالله، ويمدّد في اللاّم الأولى مدّ وجع لا مدّ إشباع.

إن الحماس في المواجهة على مذهب 25 يناير قلّ منسوبه، ليس غلبة للقهر والعدم، بل لإرهاق سؤال ما بعد إسقاط فرعون مصر وحاشيته

أذكر أنه ذات شباط/فبراير جميل، كنت أتابع جماهير الأبطال في ميدان التحرير من شاشة التلفزيون كالعادة، وحينما جاء الخبر من ماسبيرو حول تقديم عمر سليمان كلمة للشعب المصري. بقيت أمام التلفزيون واقفًا، لم أعد أحتمل الجلوس ومشاهد الآلاف أمامي في الميدان، وحينما قال سليمان جملته الوحيدة، والتي حفظتها لاحقًا عن ظهر قلب وكأنها ترنيمة ربّانية، بتّ أصيح كالمجنون في البيت "تحيا مصر تحيا مصر". لم أكن أعلم حينها أن هذا الشعار النقي والبريء، ببساطته وعمقه في نفس الوقت، سيتحوّل لعنوان مشروع الذبح والتقتيل بعد سنوات قليلة.

في الواقع، مللتُ الأحداث الجارية وتفاصيلها، من هنا وهناك، وما يقوله هذا وما يردّ ذاك. وأشعر أن نفس إنسان مهزوز تسلّلت من حيث لا أعلم، وقد لا يكون فيما أكتب وما تجتره الحروف، إلا مشروع مكاشفة من أجل مواجهة هزيمة، هي كسرطان يعبث قبل أن يقتل.

في 2012، تابعت الانتخابات التشريعية والرئاسية بشغف كبير حيث كنت أترقب نتائج اللجان في هذه المحافظة، وأنتظر الجديد في تلك المحافظة، لقد كانت الانتخابات فرصة جميلة لأكتشف المحافظات وخاصة محافظات الدلتا ووزنها السكاني وغير ذلك. ولكن حينما تم تنظيم الانتخابات البرلمانية الأخيرة، المشمئزة في التوصيف الذي يتبادر لذهني سهمًا، أحسست حجم اللّطمة التي حلّت ذات يوليو، ويبدو أن لعنة تسمية الشهر عن يوليوس قيصر لازمته حتى كان شهر الجيش و"أصحاب الدبابير" في مصر المحروسة. فهي لطمة جعلتني كلّما وجدت خبرًا عن هذه الانتخابات إلا وسارعت لتغيير القناة أو لتغيير الصفحة، وكأنني أهرب ممّا لا يلزمني فيه الهروب، وهو هروب استنكاف واستعفاف.

ثم حينما بدأت أكتشف الأسماء التي صعدت للبرلمان الجديد بل واكتساحها في دوائرها، وهي أسماء النطق بها يستوجب الغسل من النجاسة، إلا وكبرت المصيبة أمامي، وحينما أستذكر "حواديت " رئيس مصر العظيمة التي لا تخطر أحيانًا ببال كوميدي يستقصد إضحاك الجمهور، فتكبر المصيبة. أما حديث السخرية المنتشر في الصفحات والمتداول بين الشباب المعدوم اليائس، لم يعد يستهويني، حتى شككت أنّهم هزموني من حيث لا يمكن لي يومًا أن أنهزم، بل أكاد أتيّقن وأرجو أن يخيب ظنّي في صحّة يقيني، والظّن واليقين إخوة أعداء.

وأنا أرسم حديث المكاشفة بألوان الأسود ودرجاته، أسمع أم كلثوم وهي تغني مقطع "كان لك معايا " من رائعة "أنساك"، وكنت أسمع كذلك الأغنية الشهيرة "مفيش صاحب يتصاحب" من فن المهرجانات المنتشر في مصر، ليقول أحدهم، ما الرابط بين أم كلثوم و"عيال أولاد سليم اللبانين"؟ لتأتي الإجابة أن مصر فيهما، أم كلثوم هي مصر العظيمة التي تدور في مدارها حرّة، وفي فن المهرجانات المنتشر بين "أبناء الغلبانة"، تتجلى عندي مصر الجميلة بصوت أبنائها الصغار المعدومين وصورتهم فيها، وصورتها فيهم.

حينما تؤمن بالثورة لا يمكن لك إلا أن تحيا بالتفاؤل

تنتابني أسئلة كثيرة لاتزال أجوبتها معدومة، بل لا أكاد أقوم بمجهود للبحث عن الإجابة. أسأل، هل نستحق أن نعيش هذا المشهد الكئيب؟ أليس الموجود والمعيش والملاحظ هو انعكاس مرآتنا، مرآة المجتمع من قاعدته لقمته، ومرآة الدولة من أصغر موظف لأكبر موظف؟ أليست هذه الحقيقة التي نكابر في تقبّلها؟ أليس من باتوا رجال الدولة اليوم، من سيادة رئيس الجمهورية إلى حضرة النائب الموقّر، هم مرآتنا بحقّ؟ أليس قادة الرأي في التلفزات والإذاعات، الذين يصلّون على مذهب التضليل والتلفيق، هم قادة الرأي بحقّ؟ أليس قادة المشهد ورجال الصف الأول اليوم في كل الواجهات هم الأصل وأما رجال مبارك فهم التقليد المجمّل؟ هل يعاقبنا الله؟ هل يمتحننا الله؟ هل هي لعنة، أم نقمة ما قبل النعمة؟

أسئلة لا أود أن أبحث فيها، يكفينا إرهاقًا. صدقًا، إن الحماس في المواجهة على مذهب 25 يناير قلّ منسوبه، ليس غلبة للقهر والعدم، بل لإرهاق سؤال ما بعد إسقاط فرعون مصر وحاشيته. إنّه همّ البناء، وما أدراك ما البناء في مصر. فكم يحتاج منا من مجهود ومن نفس طويل. ولذلك النصر عندي، هو نصر بناء مصر العظيمة لتعود قائدة في المجال العربي، وما دون هذا النجاح، فهو ليس بنصر، بل خطوات، لو ننظر إليها بشكل عمودي من الفوق، لا نكاد نراها في بحر آمالنا. وكأننا في طريق السواد من كل جانب فيه، وضوء الإنقاذ، هو بعيد، قد يكون سرابًا وقد لا يكون، بالنهاية، الضوء غير ثابت، وكأنه يذهب ويتباعد مع كل حركة منا.

الحقيقة لا أعلم كلّما حدثت نفسي بما كتبته اليوم، والذي أكتبه شجاعة على نفسي ليس في نفسي، إلا ويأتي بعض الكلام، كحمامة تحمل رسالة فتدقدق على نافذة بيت يجلس صاحبه الكئيب أمام المدفأة في ليلة شتوية. ماهو هذا الكلام؟ هو أنه حينما تؤمن بالثورة لا يمكن لك إلا أن تحيا بالتفاؤل. هو أن الثورة حقّ والحقّ منتصر مهما طال زمن الباطل. وأنه للحق دولة وللباطل جولة. وأنه "لا تستوحشوا طريق الحقّ لقلة سالكيه". وهو أن الشعلة باقية وكلما ازداد الرذاذ من أجل إطفائها، تزداد نارًا وتوقّدًا.

لكن بالنهاية كذلك، هذا الكلام لا يمكن، كما كان سابقًا، أن ينسخ ما قبله، أو على الأقل تضاءلت مساحة مفعوله لحساب الآخر، لحساب الموت الأخير، وذلك في صراعهما الكلاسيكي اليومي. وهو في الحقيقة صراع بين "تحيا مصر بتاعتنا" و"تحيا مصر بتاعتهم". وفي كلّ ذلك، لا يمكن أن أرسم بالكتابة استخلاصًا إلا لوحة الموت قبل الأخير والذي نسأل الله تأجيله، فلا حول ولا قوة إلا بالله.

اقرأ/ي أيضًا:

برلمان "30 يونيو" على سرير النظام

تعددية الأحوال الشخصية.. درب السلامة يا مصر