16-مارس-2025
من لوحات عمر الفيومي

من لوحات عمر الفيومي (مواقع التواصل)

في قلب العاصمة المصرية، وتحديدًا في "جاليري زهرة" بوسط البلد، أُقيم المعرض الفني الجديد للفنان عمر الفيومي، الذي افتُتح في مطلع شباط/فبراير الجاري واستمر حتى نهايته. المعرض الذي يحمل عنوان "وصول البرابرة" يُعتبر أكثر من مجرد عرض لأعمال فنية، إذ يبدو كأنه محاولة لتفكيك المفاهيم التاريخية والثقافية السائدة، وتقديم رؤية مختلفة لما هو مألوف.

ومن خلال لوحات هذا المعرض، يستعرض الفيومي تجربته الفنية الجديدة، ويضعنا أمام عالم من التأملات الفكرية عن الإنسان والحضارة والآخر ومن يكون. باستخدام أسلوبه المميز الذي يمزج بين الرؤية التقليدية والتجريبية، يتحدث الفيومي عن كيف يمكن للفن أن يكون أداة لتحدي الأفكار الموروثة والبحث عن فهم أعمق للإنسانية، بعيدًا عن الصور النمطية والتصنيفات الجاهزة.

وُلد عمر الفيومي في 1 شباط/فبراير عام 1957، ونشأ في حي بين السرايات، وهو حي شعبي مجاوز لجامعة القاهرة. يمتلك الفيومي تاريخًا فنيًا ممتدًا على ما يقرب من 40 عامًا، حيث بدأ تجربته الفنية في كلية الفنون الجميلة، ثم رفدها بتجارب أخرى مختلفة في روسيا ساهمت في تطويرها. 

الفيومي: الفكرة الأساسية هي أن الأشياء ليست دائمًا ثابتة أو مفروضة. الفن والفكر لا ينبغي أن يُفهما بمعنى واحد فقط. كل شخص يراه بالطريقة التي تناسبه، وهذا هو جوهر الحقيقة

في معرضه هذا، يقدم الفيومي دعوة للتفكير والتساؤل عن مفهوم "البرابرة"، ويطرح تساؤلات إنسانية تتجاوز الزمان والمكان: هل نحن قادرون على فهم الآخر بعيدًا عن تحيزاتنا؟ وهل الفن قادر على فتح العقول والتفاعل مع التنوع البشري بعين مختلفة؟ البداية من الاسم "وصول البرابرة"، نلاحظ أن عمر الفيومي يقدم رؤية مغايرة للبرابرة عما هو شائع في التصور التاريخي، حيث صُوروا كغزاة معتدين بدلًا من كونهم معتدى عليهم وضحايا.

البربرية كمفهوم هي اختراع نشأ في اليونان القديمة، مرورًا بالإمبراطورية الرومانية، ثم بروزها في الولايات المتحدة، وصولًا إلى العصر الكولونيالي الحديث. ربما يطرح عبر لوحاته مفهومًا معينًا للبرابرة والبربرية، أو ربما تكون هذه محاولة فنية تشكيلية منه لتفكيك الصورة النمطية للبرابرة. يقول موضحًا: "المصطلحات مثل (البرابرة) لم تكن تُستخدم فقط في الماضي للإشارة إلى الشعوب التي كانت تعتبر غير متحضرة أو (أقل) منهم، بل الفكرة نفسها استمرت في الأذهان حتى يومنا هذا".

ويضيف: "كان هناك منطق من الغزاة يُقال فيه إن هذه الشعوب يجب أن تكون مثلنا لكي تعتبر متحضرة، لكن هذا الفكر ما زال قائمًا في بعض الأماكن حتى الآن. في الماضي، كان الأمازيغ في شمال أفريقيا يُعتبرون (برابرة) لأنهم لم يكونوا يونانيين أو رومانيين. لكن مع مرور الوقت تغير المفهوم، وبدأ الناس في التعرف على ثقافات مختلفة والاعتراف بتنوعها. في الواقع، هذا المنطق هو ما جعل هذه التسمية تستمر حتى يومنا هذا. في بعض الأحيان، يروج البعض لفكرة أن الحضارات يجب أن تتشابه مع حضارتهم لكي تعتبر (حضارة)، ولكن هذا ليس صحيحًا. عندما بدأنا نفتح عيوننا ونتأمل في التاريخ، اكتشفنا أن العديد من الحضارات التي سبقتنا لا تزال حية إلى الآن. (الهمجية) ليست مقتصرة على مجموعة معينة، بل هي موجودة في كل مكان وفي كل زمان. الفكرة الأساسية هي كيفية رؤيتنا للآخر وكيفية فتح عقولنا لفهم ثقافاتهم، لا فرض منطقنا عليهم". 

يشير الفيومي إلى أن هذه الحكايات والمفاهيم كانت موجودة في زمن ما قبل الميلاد وحتى اليوم، وهذا يتوازى مع نفس الفكرة التي نجدها في الأعمال الأدبية والفنية، مثل قصيدة "انتظار البرابرة" للشاعر كفافيس، التي تشير إلى أننا في النهاية ننتظر شيئًا غير معروف أو غير متوقع.

من لوحات عمر الفيومي

يكمل حديثه قائلًا: "هذه الأسئلة تثير تفكيرنا هل نحن قادرون فعلًا على فهم الآخر دون تحيز؟ الفن جزء من التجربة الإنسانية، وعندما يكون الفن ليس مجرد تعبير جمالي، بل أداة لفهم أعمق، فإنه يصبح له معنى حقيقي. فيما يتعلق برؤيتك عن الفن، من الجميل أنك تترك للناس فرصة لاكتشاف المعنى بأنفسهم، لأن كل شخص له رؤيته الخاصة. الفكرة الأساسية هي أن الأشياء ليست دائمًا ثابتة أو مفروضة. الفن والفكر لا ينبغي أن يُفهما بمعنى واحد فقط. كل شخص يراه بالطريقة التي تناسبه، وهذا هو جوهر الحقيقة". 

لدى عمر الفيومي شخصية فنية مميزة، وغالبًا ما يصور شخصيات قلقة ومترددة، خاصةً رواد المقاهي والأشخاص الذين يتجولون في وسط البلد. لديه اهتمام فني يقترب من "الهاجس" عندما يتناول عالم المقاهي، ومن الملاحظ أن أعماله تطرح نوعًا معينًا من المقاهي، ربما ليس "مقاهي النخبة" وإنما المقاهي الشعبية البسيطة، على الرغم من أن هناك بعض التعمد من جانبه في عدم إظهار نوعية المقاهي، بقدر إظهار حالة روادها ومرتاديها.

يعقّب على ذلك قائلًا: "في أواخر الثمانينات، وتحديدًا بين عامي 1986 و1993، سافرت إلى روسيا، وعندما عدت في أحد أيام الصيف، ذهبت كعادتي للبحث عن أصدقائي في المقاهي. منذ صغري، كان لدي شغف خاص بالجلوس في المقاهي، وأتذكر كيف كنت أهرب من المنزل لأقضي ساعات في المقهى، لأنني كنت أشعر براحة كبيرة هناك. لكن بعد عودتي من السفر، بحثت في كل المقاهي في وسط البلد ولم أتمكن من العثور على أي من أصدقائي. شعرت بحالة من الوحدة الشديدة في المكان، لكنني لم أمنح الموضوع اهتمامًا كبيرًا في البداية. ومع مرور الوقت، بينما كنت أعمل، قرأت قصيدة شهيرة لمحمود درويش (كانوا هنا) وتحديدًا مقطع (وإن أعادوا لك المقاهي فمن يعيد لك الرفاق؟)".

أضاف: "شعرت بمصداقية كبيرة لما عبر عنه. عندما نكون في لحظات معينة من حياتنا، نشعر بمرارة فقدان الرفاق، وأننا نبحث عن شيء مفقود. هذه الأحاسيس تذكرني بالوحدة التي يعاني منها الكثير من الناس في حياتهم اليومية. الكثير من الناس يشعرون بفراغ كبير عندما لا يجدون من كانوا حولهم، وأعتقد أن هذا هو السبب في أن البعض يشعرون بحالة من الموت النفسي رغم أنهم أحياء. الطاقة الحياتية التي تمنحها العلاقات الاجتماعية والتواجد مع الآخرين تقل مع فقدان هؤلاء الأشخاص. وكلما فقد الإنسان تواجده مع الآخرين، كلما تضاءلت طاقته النفسية". 

الفيومي: الفن جزء من التجربة الإنسانية، وعندما يكون الفن ليس مجرد تعبير جمالي، بل أداة لفهم أعمق، فإنه يصبح له معنى حقيقي

وأردف: "أما عن مقاهي وسط البلد، فلطالما كانت جزءًا أساسيًا من حياتي، خاصةً عندما كنت أدرس في الجامعة. كنت أحب التجول في شوارع وسط البلد، وأتذكر كيف كانت الحياة في ميدان التحرير قديمة جدًا. كان هناك نافورة في وسط الميدان، ومقاعد حجرية، وكنت أحب الجلوس هناك ومراقبة الناس وهم يمرون من حولي. كانت وجوههم تعكس قسوة الحياة ومشقتها، وكانوا في غاية الاكتئاب. بالنسبة لي ولعموم المصريين، المقاهي ليست مجرد أماكن للشرب والتسلية، بل هي مكان للقاء الناس، وفتح النقاشات، وعقد الصفقات، وحتى اتخاذ القرارات الكبيرة في الحياة، وبعض مبدعينا كانوا لا يكتبون سوى في المقاهي. كانت المقاهي، خاصةً في وسط البلد، تجسد تاريخًا ثقافيًا وحضاريًا. أما الآن، فقد تحولت بعض هذه الأماكن إلى أماكن سياحية، ففقدت روحها القديمة وأصبحت أماكن تجارية تفرض الحد الأدنى من الأسعار، وفرضت الرأسمالية منطقها القاتل. أتذكر كيف كان مقهى (زهرة البستان) في الماضي، حيث كنت أذهب وأشعر وكأنني في بيتي. كان القهوجي يعرف ما الذي أريد أن أشربه بمجرد دخولي. كان الأمر بالنسبة لي أشبه بنوع من الفهم بيننا من خلال النظر، وتعلمت الكثير من الحياة في هذه الأماكن. ثم في واحدة من المفارقات الجميلة، قابلت سيدة في إحدى هذه المقاهي، وكانت هي من أصبحت شريكة حياتي". 

وعن حضور المقاهي في أعماله الفنية، يقول: "في أعمالي الفنية، يظهر اهتمامي البارز بالمقاهي الشعبية البسيطة. وعلى الرغم من أنني لا أركز بشكل خاص على نوعية المقاهي التي أستخدمها في لوحاتي، فإنني أهتم أكثر بتصوير الحالة الاجتماعية لروادها. حيث هو المكان الذي يعكس واقع الحياة اليومية، وهم الأشخاص البسطاء الذين يعبرون عن مشاعرهم وأفكارهم في هذه الفضاءات. على سبيل المثال، في إحدى لوحاتي، رسمت سطح بيت مع مجموعة من النساء الجالسات، وهنَّ يشاركن في بعض الأنشطة اليومية مثل اللعب على الطاولة أو التحدث مع بعضهن. هؤلاء النساء كن نسميهم (ستات العصاري) في المجتمع المصري، حيث تنزل النساء إلى المقاهي بعد قضاء بعض الوقت في البيت. أصبح ذلك مشهدًا معتادًا في حياتنا اليومية. إحدى النقاط التي أريد تسليط الضوء عليها هي أن القهوة، في الماضي، كانت مكانًا خاصًا بالرجال فقط. لكن مع مرور الوقت، أصبحت النساء يشاركن أيضًا ومن روادها. هذا التغيير يعكس التحولات الاجتماعية في المجتمع المصري". 

تناول فنانون كُثر المقاهي كموضوعات في أعمالهم، وخصوصًا مقاهي وسط البلد. لكن الفيومي استطاع الغوص في أعماق هذه الشخصيات، وكشف عن جوانب نفسية وروحية فريدة، ساعدته الألوان والخطوط والفراغات في التعبير عن ذلك بشكل جلي. يقول: "المقاهي كانت دائمًا موضوعًا مكررًا، لكنني حاولت أن أُظهر هذا الموضوع بطريقة مختلفة. المقاهي لها خصوصيتها في أعمالي، وعندما يذكر الناس هذه المقاهي، تكون صورها غالبًا مرتبطة بشغلي، حتى إذا لم يذكروا اسمي، وكأنها أصبحت علامة مميزة لأعمالي. عندما تخرجت، كان أسلوبي في البداية قريبًا من الواقعية، لكنني بدأت أبتعد عنها شيئًا فشيئًا".

وتابع: "في الواقع، لم أكن أستطيع أن أترك الواقع تمامًا، لكنني كنت أريد أن أترك مساحة في اللوحة كي يتفاعل معها الجمهور. بدأ اهتمامي برسم المقاهي بمناسبة عيد ميلاد أحد أصدقائي، وكان هو الإذاعي شوقي فهيم. كان يأتي إلى المقهى كل يوم، يجلس وحيدًا، مسندًا رأسه على يديه فقط يتأمل المارة والحياة. قررت أن أهديه لوحة فنية، قررت أن أرسم له لوحة. كانت الصورة التي اخترتها له وهو جالس في مقهى البستان. كانت اللوحة زيتية وسريعة التنفيذ، كنت سعيدًا جدًا بالنتيجة. بعد ذلك، بدأ أسلوبي يتطور، وبدأت أركز على رسم الشخصيات التي التقيت بها في المقاهي مثل الفنانين والأدباء الذين كنت أتعامل معهم عوني هيكل، وبهاء طاهر. في تلك الفترة، كان المقهى بالنسبة لي أكثر من مجرد مكان للاسترخاء، بل كان حياة كاملة. وأصبحت المقاهي تمثل بيئة حية، مليئة بالأفكار والحوار المستمر. وفيما بعد، قمت برسم عدة لوحات تمثل تلك اللحظات. حتى في فترة ما قبل الثورة، كنت أرى أن الناس في المقاهي يعيشون في حالة من السكون والانتظار، وكأنهم في مكان لا يتغير، لكن مع الثورة تغير كل شيء".

عام 1986، سافر الفيومي في منحة دراسية لدراسة الفن بأكاديمية ريبن في سان بطرسبورج بروسيا، حيث بدأت مرحلة جديدة في حياته بعدما قضى نحو سبع يرسم ويجرب، وفقًا لقواعد وأساليب ورؤية جديدة لم تكن متاحة له من قبل. يقول عمر عن هذه الفترة: "سافرت إلى روسيا لاستكمال دراستي في التصوير الجداري، وكان من حسن حظي أنني تتلمذت على يد واحد من أشهر الفنانين الروس، أندريه أندرييفيتش ميلنكوف. قام هذا الفنان بعمل عظيم، حيث جمع الفنانين وطلبة أكاديمية الفنون أثناء الحرب العالمية الثانية وطلب منهم رسم المباني التاريخية القديمة في مدينة لينينغراد، التي كانت محاصرة في ذلك الوقت، بنفس الألوان والتصميمات، خوفًا من تعرضها للتدمير. وتم حفظ هذه الأعمال في بدروم الأكاديمية بهدف إعادة أي مبنى يتم تدميره إلى شكله الأصلي". 

من لوحات عمر الفيومي

وأضاف: "عندما كان أندريه أندرييفيتش يشرف على مشروعي في الدفاع عن الأطروحة، توقف وقال لي: "انتظر، دعني أتكلم أولًا. كان هذا الرجل مشرفًا عليّ، وكان يزورني أسبوعيًا ليشاهد أعمالي ويتابع تطوراتي. ثم قال لهم: الرجل الذي أمامكم ليس جاء ليتعلم منا، نحن من نتعلم منه. هو جاء من حضارة قديمة وعريقة اسمها مصر. إذا لم نتعلم منها، فلن نحقق أي شيء. طبعًا كنت سعيدًا جدًا في تلك اللحظة، خصوصًا لأنني كنت أعمل على مشروع له علاقة بالفن المصري والفرعوني. نعم، تعلمت الكثير في روسيا، ليس فقط في مجال الفن بل في الحياة بشكل عام. فقد كنت أعرف كيف أرسم قبل أن أسافر، ولكن هناك بعض الأشخاص الذين تخرجوا من هنا دون أن يعرفوا الرسم. وبالطبع، في روسيا كان هناك أيضًا من لا يعرفون كيف يتعاملون مع التجريد والأشكال الفنية. هذه الرحلة كانت مهمة بالنسبة لي، عندما ذهبت إلى روسيا، بدأت بالجلوس هناك وتعلمت اللغة الروسية. كنت أخصص وقتي للرسم في المنزل أو في بيت الطلبة. كان هناك طلاب آخرون يحبون مشاهدة أعمالي ويتعلمون مني، لأنني كنت أكبرهم سنًا. أيضا كنت أذهب بشكل مستمر إلى المتاحف المكتبات والمراكز الثقافية، أتعلم وأجرب وأحاول استيعاب كل ما أشاهده، وأتجول في مدن أخرى وأكتشف حياة وثقافات مختلفة لم أكن لأتعرف عليها لولا هذه الفرصة".

وفي سياق الحديث عن روسيا، كان للفيومي علاقة إنسانية وفنية وإبداعية طوال سنوات عديدة بالفنان التشكيلي الراحل مصطفى الخليل، أو مصطفى المسلماني الذي رافقه في رحلته إلى الاتحاد السوفيتي. وليس هناك من هو أفضل منه للحديث عن عالم هذا الفنان الاستثنائي:"أنا ومصطفى التقينا عندما كنت طالبًا في كلية الفنون الجميلة. وكان مصطفى يعاني من بعض المشاكل داخل الكلية بسبب السياسة والإدارة. عندما تعرفنا على بعضنا، اكتشفنا أن أفكارنا متقاربة، وتوجهاتنا كلها كانت متشابهة. أصبحنا قريبين من بعض. وبعدها سافرنا في الفترة نفسها، وكنت قبل سفرنا نلتقي كثيرًا ونتحدث مع بعض".

يكمل: "عندما التقينا في روسيا، كنت أعرف أنني مسافر وهو كان يعرف أنه مسافر، ولكننا لم نخبر بعضنا عن هذا مسبقًا. جاء الأمر بالصدفة. لكن عندما وصلنا، عرفت من صديق لنا في موسكو أنه التقى به هناك. بعدها بدأنا نتبادل الرسائل البريدية - أنا في ليننغراد وهو في كييف - ومازلت أحتفظ بمجموعة كبيرة من هذه الرسائل. عندما عدنا إلى مصر، بدأنا نعمل معًا في مكتب فني تخصصنا فيه الفن التشكيلي. في البداية، كان هدفنا أن نعمل في مجال الترميم والطباعة والفن التشكيلي، وكنت قد عملت في مجال الطباعة قبل أن أسافر. إلا أن الأمور لم تمضِ كما خططنا، واستمر العمل في الطباعة فقط. أما بالنسبة لمصطفى، فقد كان فنانًا مختلفًا وجميلًا جدًا. كان دائمًا مجددًا في فنه، وأسلوبه مميز عن باقي الفنانين في المنطقة. وفي مشروع تخرجه، كان قد قدم أعمالًا رائعة جدًا عن الجمال، وكانت أعماله تحاكي الجمال في أسلوب فني مميز. كما كان مصطفى كاتبًا ممتازًا في النقد الفني، وكتب عدة مقالات في مجلة "البيت". لكن، كان يرفض أن يتم تصنيفه ككاتب، وكان يرى نفسه فنانًا تشكيليًا فقط". 

أردف: "عاش مصطفى العديد من التحديات الصحية، حيث تعرض لتلوث إشعاعي بعد حادث تشيرنوبل في أوكرانيا. ثم أصيب بفشل كلوي ومرض السكري، وأثر ذلك بشكل كبير على صحته. في النهاية، توفي مصطفى في عام 2008 بعد صراع طويل مع المرض. مصطفى كان شخصية فريدة جدًا. كان يعتبر نفسه فلاحًا، رغم كونه من أسرة إقطاعية. حيث كان جده إنجليزيًا وكان مسؤولًا عن إنشاء خطوط السكة الحديد في مصر، وقد أسلم وعاش في مصر. رفض تعلم الإنجليزية رغم أنه عاش فترة في الخارج. ورفض أيضًا الحصول على الجنسية الإنجليزية وكان يعتز بمصريته إلى أبعد حد. وأعتبر نفسي محظوظًا بمعرفته. عندما توفي، أصبت بحالة اكتئاب شديدة ولم أستطع أن أتعامل مع فقده بسهولة".

الفيومي: المصطلحات مثل (البرابرة) لم تكن تُستخدم فقط في الماضي للإشارة إلى الشعوب التي كانت تعتبر غير متحضرة أو (أقل) منهم، بل الفكرة نفسها استمرت في الأذهان حتى يومنا هذا

يستلهم الفيومي فنه من عوالم الشعر، كما رأينا سابقًا في لوحات "كانوا هنا" المستوحاة من درويش، و"وصول البرابرة" من كفافيس، وحتى في المعرض الأخير نجد إشارات لشعراء آخرين مثل فؤاد حداد وصلاح عبد الصبور، وكيف تتحول الكلمات والصور الشعرية إلى ألوان ولوحات فنية نابضة بالحياة. نرى أيضًا عملية عكسية في عالم السرد، إذ يستعيض الكاتب أشرف الصباغ عن وصف كائنات "وسط البلد" وملامحهم وحالاتهم الوجدانية والوجودية، بطرح عالم عمر الفيومي، حين أطلق في إحدى قصصه على هذا العالم الفني المعبر والدال عن كينونة الإنسان بعبارات من قبيل "مقاهي عمر الفيومي" و"كائنات عمر الفيوم".

يقول الفنان عمر الفيومي في هذا المقام إن: "الفنون جميعها تتكامل مع بعضها البعض وتشكل لغة واحدة تعبر عن ذات القضية من زوايا مختلفة. الفنان يستلهم من الشعر ويترجم مشاعره إلى ألوان ولوحات، بينما الروائي قد يعبر عن تأثيرات الفن التشكيلي في نصوصه، وهكذا دواليك. الفكرة أن كل فن يعبر عن نفس الموضوع لكن بطرق وأساليب مغايرة، مما يخلق تنوعًا وتكاملًا في فهم القضايا الإنسانية".

والسينما، كما يقول الفنان، هي: "مثال بارز على هذه الظاهرة، حيث يتم استلهام المشاهد السينمائية من اللوحات الفنية وتقديمها بشكل يتناغم مع الحركة والصوت، مما يعمق التأثير ويوسع الأفق البصري والتجريدي للقصة. أما بالنسبة لتأثير الفن على المتلقي، فهذا شيء بالغ الأهمية. القدرة على الوصول للآخرين وإيصال رسالتي من خلال الفن، سواء كان تشكيليًا أو شعريًا أو سرديًا، هو أحد أسمى أهداف أي فنان. إنه نوع من التواصل العميق الذي يتجاوز الكلمات، ويعتمد على المشاعر والمشاهد التي تترك في المتلقي أثرًا طويل الأمد".