لوحات الأطفال وذوي الهمم.. حين يتحوّل الفن إلى رسالة صمود
9 أكتوبر 2025
في مساحةٍ تجاوزت الفروق والحواجز بين الطبقات والأعمار، بقيت الأفكار وحدها تتحدث، تحدق في وجوه المارين أمام لوحات الصغار وذوي الهمم، في قاعة المائدة المستديرة بنقابة الفنانين التشكيلين بدار الأوبرا المصرية، لوحات رأت الفنانة التشكيلية الدكتورة عائشة بدوي، عضو مكتب فضيلة وكيل الأزهر، أنها تستحق أن تُرى، فاحتفت بها الأسبوع الماضي في معرضين من تنظيم مبادرة "اصنع أخضر" التي ترأسها.
تفيض لوحات الأطفال بالبراءة والتعبير عن البيئة عبر عيونهم والريادة وتطلعاتهم الطموحة للاستدامة فيما يحبون، وتنطلق لوحات ذوي الهمم لتعبر عن رؤيتهم الخاصة للكون من خلال الفن، عن متابعتهم الأحداث بدقةٍ، عن شجونهم المكتومة، ودعوة أنفسهم للمثول أمام عالم كل ما يعرفه عنهم أنهم "مختلفون".
المبادرة التي تهتم بالفن وقدرته على دمج الأجيال والأزمنة ورسم معاني السلام، تسعى كل يوم لتوفير مساحاتٍ حُرّة للتعبير ونشر ثقافة التقبّل، تفتح أبوابها في كل وقت ليشارك الفنانون تجاربهم وأحلامهم وقدراتهم أيضًّا، وهذا ما يعزز دور الفن في رؤيتهم: "بأنه قادر على التغيير والاستدامة والابتكار" بحسب حديث د. عائشة بدوي لـ "ألترا صوت".
الفن نور
تروي سلمى البلتاجي، 17 عامًا، لـ "ألترا صوت"، اختيارها أن تخطّ شعورها فقط على الورق، أن ترسم بالألوان طبيعتها الصامتة والحيوية، تفضل رسم البورتريه والطبيعة الصامتة، كما تحب الرسم في أوقات المساء، وترى أن "الرسمة الحلوة" تأتي في أوقات استعدادها النفسي، وفي الوقت الذي لا تتمكن فيه من فعل ذلك. يشكل الرسم علاجًا يعيد لها اتزانها ويشعرها بالسلام.
أما مريم عبد العزيز، 18 عامًا، فتقول لـ "ألترا صوت": "إنها تعشق الرسم وتحاول الموزانة بينه وبين حياتها الشخصية والاجتماعية إلا أنه في كل مرة يفوز، مؤكدةً أن مصادر الإلهام كثيرة ورغم ذلك لا تزال اختيار أفكار اللوحات تؤرقها في كل مرة تقرر الرسم فيها، مشيرة إلى أنها تميل إلى الرسم الواقعي أكثر، وأحيانًا ما تعيش مزيجًا من الخيال والواقع في لوحة واحدة كأنها جزء من الحل".
فن مؤثر
في حين أن ميسون مصطفى، 15 عامًا، كانت قد بدأت مبادرة على السوشيال ميديا من أجل توعية الناس بالبيئة، تحارب فيها الجهل. فكانت تلتقي بالكثيرين ويزرعون الثمار في أي تربة خصبة تواجههم في الشارع، وكانت كلما تأتيها فكرة عن المبادرة تحولها إلى رسومات، فهي تؤمن أن الألوان قادرة على قول ما لا تستطيع أن تشرحه.
بينما عبّرت الطفلة سدين، 10 سنوات، عن حبها للأشجار والشمس والسماء في رسمتين اختارتهما الُمشرِفة ليكونا في طليعة الأعمال المشاركة في المعرض. ترسم سدين كل شيء يعبّر عنها وعن رؤيتها المصّغرة للأشياء، وهو ما يعزز من ثقتها في نفسها على الدوام بمساعدة والديها، قائلة: "الأحلام الصغيرة توصلنا إلى واقع محقق في يوم من الأيام كما يخبرني أبي".
طبيعة اللوحات
كل هؤلاء ينتمون لمدينة سمنود بمحافظة الغربية، من مرسم رانيا وفيق، الفنانة التشكيلية التي خفضت جناحها لهن، وفتحت لهن مرسمها يلعبون ويرسمون ويجربون كل جديد، احتضنت خوفهن وبعدهن عن أهاليهن في ساعات النهار، ووفرت لهن خامات أول لوحة مجانًا. علمتهن مزج الألوان بانسيابية، وقررت أن تكون مشاركتهن في المعرض كملهمة.
وتؤكد رانيا لـ "ألترا صوت"، أن التجهيز للمعرض استغرق منها مجهودًا شاقًا ولكنه جميل. اكتملت فيه لوحتها الكُبرى وهي ترى الأطفال من حولها يكرمون ويتناقشون ويصنعون روحًا مرحة في القاعة، ومن قبل ذلك وهم يتعرفون إلى أنفسهم عن طريق الفن التشكيلي الذي لا تخطيء جماله القلوب.
كانت اللوحات في معرض الطفل معبّرة عن البراءة في أبسط صورها، الدهشة الحقيقية لأطفال يكتشفون العالم من حولهم، والحكايات الأولى التي رواها آبائهم لهم قبل النوم، رسومات عن الوَنس، ولوحات عن الشجر والطبيعة والبحر وأخرى عن التصّحر، عن الموسيقى والأزهار والشمس والليل، رسومات بالخشب والزجاج المعشق والبلاستيك والأحجار والفحم والأكليريك، صنعت عالمًا مبهرًا، على خلفية ضحكات الأطفال وقفزاتهم ومرحهم.
استدامة وابتكار
وتؤكد الدكتورة عائشة بدوي في حديثها لـ "ألترا صوت"، أن المعرض يمثل منصّة هامة لاكتشاف ودعم الأطفال الموهوبين، وإبراز مواهبهم في المجتمع، ما يساهم في تنمية مهاراتهم واندماجهم في الحياة الثقافية والمجتمعية، مضيفة أنه ومن خلال هذا المعرض، عبّر الأطفال عن رؤيتهم الفنية ومشاعرهم وأحلامهم.
وتضيف بدوي أن بعض الأعمال الفنية والريادية ذات البُعد الفني والجمالي والوظيفي أبرزت قدرة الأطفال على المشاركة في حل المشاكل البيئية من خلال ابتكار لوحات ومجسمات وأعمال نفعية تعتمد على إعادة تدوير المستهلكات البيئية بشكل نفعي وإنتاجي.
وتشير إلى أن مشاركة الأطفال في المعارض الفنية تعتبر أمرًا بالغ الأهمية، حيث تمكنهم من التعبير عن أنفسهم بطريقة إبداعية ومبتكرة، وتعزز من ثقتهم في أنفسهم، كما أن الفن يلعب دورًا هامًا في تنمية الشخصية، وتحسين الحالة المزاجية والنفسية للأطفال، ويساهم في تطوير مهاراتهم الإبداعية والفنية.
كانت اللوحات في معرض الطفل معبّرة عن البراءة في أبسط صورها، الدهشة الحقيقية لأطفال يكتشفون العالم من حولهم، والحكايات الأولى التي رواها آبائهم لهم قبل النوم
أما بالنسبة لأهداف المعرض فتشير بدوي إلى أنه يهدف إلى تحقيق أهداف عدة، منها تعزيز الوعي بالقضايا البيئية من خلال الفن والإبداع، وتشجيع المشاركة المجتمعية في حماية البيئة وتحقيق الاستدامة، ودعم الأطفال الموهوبين وتسليط الضوء على إبداعاتهم، كذلك نشر ثقافة الاستدامة من خلال الفن والفنون التشكيلية.
كما توضح أن المعرض استهدف مشاركة 40 طفل وطفلة موهوبين، وعرض 100 عمل فني ومجسم من إبداعاتهم، بهدف تعزيز ثقافة الاستدامة والابتكار من خلال الفن والإبداع.
وعن معرض ذوي الهمم، تؤكد الدكتورة عائشة بدوي، أن المشاركة في المعارض الفنية تُمكّن ذوي الهمم من التعبير عن أنفسهم بطرق إبداعية، وتسلّط الضوء على مواهبهم الفريدة، والمعرض ليس مجرد عرض فني، بل هو منصة لإطلاق طاقات إبداعية كامنة، وتأكيد على قدرة الفن على كسر الحواجز وتغيير المفاهيم.
كما أوضحت بدوي أن المعرض يهدف إلى تمكين ذوي الهمم وبناء الثقة، واندماجهم مجتمعيًا، وتنمية الشخصية، وتحسين الحالة المزاجية والنفسية لهم، مشيرة إلى استهداف المعرض مشاركة ذوي الهمم من مختلف الإعاقات "الحركية، السمعية، والعقلية" لنجد نماذج مؤثرة وذات بصمات فنية قوية، حيث يرسمون بالفم وبأطراف الأقدام وغيرها.
كما أُقيم معرض فني آخر لذوي الهمم؛ انطلق تزامنًا مع اليوم العالمي للغة الإشارة تحت شعار "لمسات صامدة"، وحضره الفنان طارق الكومي، نقيب الفنانين التشكيلين، وفضيلة الدكتور محمود الهواري، الأمين العام المساعد للدعوة والإعلام الديني لمجمع البحوث الإسلامية، وعددًا من الفنانين التشكيلين بجانب الفنانة عائشة بدوي.
كسر الحواجز
عندما تتجول بين أروقة المعرض، تدرك أن الفن ليس مجرد هواية، بل أداة فعالة لتنمية المهارات وتعزيز الثقة بالنفس، تجد براعة في رسم الخطوط وتجسيد الشخصيات، وتترك اللوحات في نفسك تساؤلات عدة: عن الأحلام المؤجلة، والأفكار المحبوسة، والأمومة الضائعة، عن الآلام التي ينجو منها الإنسان والآمال التي يخلقها في لحظات الرضا.
كانت اللوحات المعروضة تعبر عن الأمومة في مختلف صورها وأشكالها، عن أمٍ يلتف حولها أبنائها في كل مرة وهي تحاول توعيتهم فيها بشيء جديد، ولوحة أخرى تنكب فيها الأم على ماكينة خياطة تسترزق منه وحولها أبنائها، حيث تذوب الماكينة مع جسدها في شفافية مبهرة. أما اللوحات الأُخرى فكانت بورتريه لفتيات مختلفات في الشكل والطول وطريقة المعالجة ولكن ظلت نظرات العيون – كنافذة واحدة – تعبّر عن الكثير مما يريد قلب الفنانين إيصاله إلى الجمهور العام.
في الجولة التعريفية باللوحات، التقى الدكتور الهواري بذوي الهمم، شاركهم أفكارهم معلقًا عليها بإيجابية، مناقشًا معهم الرسومات المعبّرة عن الأمومة والحنين والسجن والأفكار المختلفة، مخاطبًا كل شخص منهم بلغته التي يفهمها، إما بالإشارة أو بالاستماع للكلمات المتقطعة أو حتى بالحديث مع وسيط.
كانت اللوحات المعروضة تعبر عن الأمومة في مختلف صورها وأشكالها، عن أمٍ يلتف حولها أبنائها في كل مرة وهي تحاول توعيتهم فيها بشيء جديد
ويؤكد الهواري في حديثه لـ "ألترا صوت" أن الأعمال كلها معبرة عن أفكار كثير من الشباب، مما يوّضح أن ذوي الهمم ليسوا في معزل عن المجتمع، حيث يحاولون الاندماج معه بما يتناسب مع حالاتهم المختلفة، ويجب على المؤسسات أن تحتضنهم وتقوم بتوفير الأدوات اللازمة لمهاراتهم.
من جهته، التقط الكومي طرف الخيط مؤكدًا أن المعرض يعتبر إضافة نوعية لمشهد مصر الثقافي، حيث تنقل لوحاتهم رسائل هامة لا يعيها إلا أصحاب الحسّ المرهف والفكر السليم، مضيفًا أن النقابة ستركز جهدها الفترة القادة على إحياء نماذج صُنعت بواسطة ذوي الهمم، وتوجيه طاقاتهم لتكون أكثر شمولية وإبداعية.
طموحات مرسومة
في وسط الحضور كانت ذات طبيعة خاصة، تلتقط الفرشة بفمها وترسم، تعبر عن امتنانها بنظرات شغوفة، وتشير لرسوماتها بفخز ممزوج بالدموع، تحكي الفنانة التشكيلية صفاء طه، 23 عامًا، لـ "ألترا صوت"، عن فنها قائلة: "أرسم منذ عمر 8 سنوات باليد اليمنى، ثم الرسم بالفم منذ 7 سنوات، اكتشفت حُبي للرسم مع حُبي للتفاصيل".
تتابع صفاء لوحات الفن التشكيلي العالمية وتقلد اللوحات التي ترى فيها روحها بوضوح، حيث يمّكنها الدمج بين لوحات كثيرة وإنتاج رسمة مخصصة لها، وتشعر في تلك اللحظات بثقتها الكاملة في نفسها، وترى في الفن علاجًا بعد كل مرة تنظر للخطوط والألوان بعد الانتهاء وتتلمس راحة البال.
أثناء وصف صفاء مدى حُبها للرسم أكدت أن طموحها أن تكون فنانة تشكيلية معروفة ولها بصمة مميزة، وتطلعها بأن تكون مذيعة مشهورة تنتج برنامجًا لذوي الهمم، وهو ما يتعلق بمجال دراستها بكلية الإعلام جامعة القاهرة. فكان حصولها على لقب وسام الريشة الذهبية لذوي الهمم على مستوى الوطن العربي فارقًا في نفسيتها وتطلعاتها.
سالي: عندما تطل العيون من اللوحات
وكما وجدت صفاء في الفرشاة التي تمسكها بفمها وسيلة للحرية والتعبير عن شجنها، وجدت سالي في ألوانها ولوحاتها مساحة خاصة تعوضها عن غياب "الوَنس"، سالي ناصر، 27 عامًا، من ضعاف الصم والبكم تعاني من تأخر عقلي، لكنّها تشرح ما بداخلها كل يوم عبر اللوحات.
تحب سالي رسم الأشخاص ودمجهم بالأزهار، أو كما تسميهن "البنات أم وردات". تسابق الزمن، تغلق حجرتها على نفسها وترسم. ترسم الخيال، والمجهول، والأشخاص، والأفكار المألوفة من حولها. تستغرق بعض اللوحات منها أشهر، وتكلفها الخامات مبالغ طائلة، ولكن والديها لا يبخلون عليها، لكونها الابنة الوحيدة ومن ذوي الهمم، بحسب تعبير بثينة والدتها.
سالي التي تتحدث بملامح طفلة بريئة أكدت أن أهم لوحة رسمتها في حياتها كانت عن فلسطين، وبمجرد أن نطقت الاسم تحولت ملامح وجهها البريئة إلى حزنٍ شديد يماثل حزن زهرة المدائن، مثل حزننا تمامًا ونحن نعي القضية وندرك عنائها.
وتتدخل والدتها فجأة في الحديث مؤكدةً أنها تعاملها كأنها فتاة طبيعية، حتى وأنها تشعر في معظم الأحيان أنها تعيش وحيدة عند سفر الأب للعمل، ولكن الأهم أنها تحاول تعريفها بالمجتمع الذي تعيش فيه، وإخراجها من قوقعة غرفتها في المنزل والتي لا تبرحها إلا بلوحة جديدة.
ترى بثينة أن حياة سالي تحولت إلى جلسات (سيكشنات) رسم بالفطرة. تريد الأم أن تضيف عليها بهارات جديدة، تمثلت ربما في إخراجها إلى الأماكن المفتوحة والنوادي والمساحات الخضراء. فوالدتها تقوم بتعريفها بالقضية الفلسطينية، وتحكي لها حكايات مطولة منها المصور عن الطفولة والأماكن والبلاد المجاورة، وعن الأحلام التي لا تدركها سالي، فتجسدها لها أمها بكل بساطة. كما تعمل والدتها على توفير خامات الرسم، رغم التكلفة العالية، كما يجهز لها الأهل مرسمًا تتربح منه بعد ذلك.
في معرضي "اصنع أخضر" بدت اللوحات مكتملة، الأطفال يتحدثون ببراءة وكذلك ذوي الهمم. كما بدت حكاياتهم وكأنها لوحة كبيرة تتشابك خيوطها. جميع الحكايات أكدت على أن الفن لا يمكنه أبدًا أن يكون ترفًا، ولكنه يتمثل في كل مساحة يجد فيها الإنسان نفسه قادرًا على إحداث تغيير، بعيدًا عن إعاقة الجسد أو بناء الفكر.
تؤكد المبادرة أن الفن التشكيلي يتعدى مفهومه الحقيقي إلى أمل جديد في نفوس الصغار وذوي الهمم، بحيث يكون قادرًا على التغيير والتعبير، ويبقى سؤال: هل يستطيع الفن التشكيلي أن يعيد وعي مجتمعاتنا ويخلق استعدادًا جديدًا في النظر إلى معنى الإبداع والاختلاف؟