08-أغسطس-2022
لوحة لـ ستنيسو تشايكوفسكي/ بولندا

لوحة لـ ستنيسو تشايكوفسكي/ بولندا

مجموعةٌ من الدوائرِ

ليس فيها أحدٌ غيري

هو أنا حين ألامِسُني من بعيد

 

الناسكون يشاهدون التعدُّدَ وقت الربيع

ربما في صباحٍ خريفيٍّ؛

تناهى في الصعود إلى الهبوط،

ويشهدون على خيولٍ

جرحَتْ الأرصفةُ الطويلةُ رِكابَها

 

كلُّ مجموعةٍ ومضةٌ

تنسخُ نفسَها غيمةً

لا تمطرُ إلّا في الصحاري

التي أسكَتَها جموحُ الماكثين هنا

المغادرين للصورِ العتيقة هناك

 

عرفتُ يومًا أنَّ الجمعَ صفرٌ

من بعد معرفتي نأيتُ

كقاربٍ يبدأ رحلتَه في الماء مبكرًا أو بعد الظهيرة

حين يجفُّ الرملُ، ويبدو غامضًا كالليلِ في الأرياف

يسكتُ الموج عن وساوسه في أذن الخليقة

من صيّادين وبحّارين وعُشاق تجاوزوا الماء...  

 

لم أعرفْ بعد ذلك أنّي عرفتُ،

لم يدق البابَ حاملُ مصباحٍ

ليُرشدني إلى أعرافٍ كانت تغيب عن ملحٍ

يؤكدُّ أنَّ عيونًا تسيلُ حين تميلُ الدهور

فيملَأُ زمنٌ حقيبتَه بعاداتٍ لا تُعاد

لكنّ خُطاها تركضُ فينا ترفُّلًا

تغطُّ فوق هياكل حملناها زمنًا

 

قُلنا أنَّ طلاءَ الهياكِل يُجدِّدُها

يقيها من صدأٍ ووقتٍ تداعى

صار القولُ قصدًا يُبعثِرُ خفّةَ الرَّبع

ثِقَلَ ارتباطِهم بالحصائرِ والحصى  

يبقِرُ بطنَ المكان/ يحوّلُه شظايا،

ما القولُ إلّا لمسًا على رأس كِفاف السؤال،  

استقطابًا لمقاصِدِه كي تكونَ أولَ منزلٍ للون

 

أُرهِقتُ يا أهلي وإياكم من زُهدِ أعمدةٍ بناها الأنبياء؛

من سيِّداتٍ يبكين بكاءً يكبُرُ كلّما خانَ جنديٌّ بندقيةً أو زهرة

كلما صلّى مراهِقٌ صلاةً صحيحةً عند مرابضِ اللحم الحلال

صلاة حذِرة تحرسُ الجباه من غوايةِ التعفُّر وإغواء الكفاية..

كلما صار الحنين مجازَ شجيراتٍ جفّفتها نفثاتُ ملائكةٍ

تتسعُ مع كلِّ حزنٍ نحتته البداوةُ على حبٍّ فقدناه

 

تركنا خمورًا أسكرتنا في خزائننا،

ونبسنا نسيرُ إلينا/ نتملّكُنا

نحاول سكبَ الكؤوس على ذبولٍ

استوفى نعوتَه من كلماتٍ خبيئةٍ تحت الجلود

 

لا تنسَ أنَّ البيوتَ ينقُصُها كيٌّ مبين  

ينقُصُها ولدٌ يمزجُ الرملَ بالكلام،

ويغفرُ لذويه فتنةَ الخلوات الحلوةِ

ما ظلَّ من عرقٍ على الأعناق مُتَّضِحًا

يضاحِكُ رغبةَ الأرقامِ في الأحشاء  

 

كلُّ قصةٍ ثابتةُ الشخوصِ

لم تكُن إلّا حدثًا واحدًا

هو كل الأحداث ومآتيها

يا مقصدَ الرِّيحِ:

أي خالِصةٌ تركنا في أمعائها سائلنا؟

نريدُ هويّةً تحملُنا بعد اعتزال الخيام

في لحظةٍ تتحوّلُ فيها الشعوبُ

سلاسل مُعلّقةً بعنقِ رياحٍ بليلة

 

زُرنا بيوت الأعمامِ رحمةً

وخشيةَ أن ننفُضَ وجوهنا يومًا

كالرمادِ على جوانب الطرقات

ربما فعلنا مع الأخوال كذلك؛  

لكنَّ شمائلهم تئنُّ على يمينٍ ضاع

كما توضَّأت الأفعال بدمِ الموقوذة

التي اتخذَتْ من بواطننا موطنًا

 

ترجَّل قاتلٌ بعصاه

إلى أن تغيّر لون النهر

فهرعنا إلى الأسرّة مُتعَبين

واعتزلنا شفائعَ نَبْتِ الحواضِرِ

أكملنا اللهو،  

ولم تُكمِلنا رغائبُنا المكبوحة.

 

2

أشعرُ بضخامة كل شيء

في زحمة خفّةٍ طارئة

أدنو من نفسي

ثم أستعين بأصواتٍ بعيدةٍ

كيّ أنأى عنها

ما الذي ينالُ من الوضوحِ بربِّك أيها التجرُّد الغامض؟

 

دمٌ آخر

غير الذي قد أنزفه حين ألامسني

يلفُّ المنطوق إذا قرر الرقص

لا شيء إلّا الضباب

إلّا السير فوق بلاطٍ أبكم

بارد..

يتكاثرُ مع إتمام الليل لمشاويره

ويُعيدُ الرايات السود إلى مخابئها السرية؛

ليحتفل بوجهٍ سعيدٍ

قتلته الحاجةُ للنعتِ

 

ليست لوحة هذا القمر المُعلّق على جدار الجسد الآثم

الذي تركته أغنيةٌ في الضباب

وأنت يا جسد الخليقة

لا زلت تتدرَّبُ على الاكتراث

لا زلت تختنق برفقٍ

وترسم على ظهر العاهرات الموائد..

 

قل للتاركات ما يؤرِّخهن

أنَّ الفجرَ لم يعُد سامريًّا

والأماكن التي تاهت في النفس تجرَّأت مرّة

دون تكرار لهذه الجرأة

تفصِّلُ هذه الأماكنُ الألغازَ

تقشّرُ الأحلام مثلما يقشّرنا العمر

كلّما سقط في علّوه السيد الهانئ

وأنت يا مزمار؛

لتكُفَّ المعارجُ عن عادة النفخ بك

 

كان رسولًا في قومه

سرديةً جديدةً ترتِّبُ أغصانًا كسّرتها الأزمنة،

وتدوَّنُ موتَ المقدّس من الحاجات

من أدوات الشرط،

وسيرة النهر العتيقة في السجلّات..

 

كان الهادرون هنا

تبتلُّ بتعاويذهم الرمال صباحًا

في المساء

كلّما استيفظ الجُند من غفوتِهم بعد ظهيرةٍ حمئة

الخوذات تعبَّأتْ بحشودٍ تلاحقُ رؤوس الجُند

فلا صحةَ لمُطلَق البصر،

وربما بصر المطلق..

 

تأتِ الذبيحةُ مرّةً في العمر

تدقُّ بابَ الاسمِ

باحثةً عمّا يعدِّدُ حظَّ التيهِ من السنوات

الغيمُ يطردُ الماءَ

فهل بعد تأتي الممكنات؟

 

3

تتقاطر نوباتُ السكون الراغبة بالنقيض

كأنا حين أرجو استبدال وجهي؛

لأعدِّدَ ثارات الشوارع الليليةِ من النيام،

وأغوص في حُمرةٍ بارزة العروق..

 

لأنَّ موكبًا من الأزمان أحاط بلغتي

صار السراجُ القديم موعدًا للكلمة

لضمادات جرح ذئابٍ لم تصُن دمها

لخطى أجّلتها كوابيسُ من كبروا باكرًا

 

كنتُ أتلوّى من سُمٍّ أزليّ

وكلما وازاني عطشٌ؛

شربت من عَرَق الرمال

 

لم أصلِّ إلّا بعد أن انتهت سبُلُ ما سوى الصلاة،

قالوا لي أنَّ الله والعُقَد في عداوةٍ مبينة

فمن يريح ظهرَ من يحمل كلَّ هذه الأكياس

صليتُ دون انتباه الجالسين في الإيوان؛

فالفجيعة مثل الطريق طويلة وممتدة..

 

كان سرّي غامقًا

مثل الرياح حين تعانق سنواتي،

والفجر يحاوط شَفَةً خرّبها الشِّعرُ

على حين الإنصات له من بناتٍ

ضيعتهن خيامُ الذاكرة

 

تشهدُ على الضياع أحلامُ العبيد،

وتؤمُّ في المراكب الصَّبِيَّةِ منارةٌ

أطفأتها لغاتُ من رجَّحَ كفّةَ الأسماء

 

البارئ في جسده أمرضه الكلام

المتكلّمون سيرةٌ مُتعبَةٌ للصمت الأزرق

كأنَّ اللوحاتِ المرسومةَ ثرثرةٌ في أذن التاريخ

نفخت القيامةُ حول إطارها المغبَر

صهرتها أغنيةُ نوارسٍ تحتضر

حفرتها الحضارةُ بإزميلٍ من العادات

اللوحاتُ عجزٌ تراثيٌّ؛

يكبر كطفلٍ ودَّع ليلًا شاعريًا

 

هنا كان النفير لقتال التجليات

التي ينقشها ذنبُ من ارتجلوا نحو الصفات،

وبنوا من الأبجدية صرحًا

أثقلته الرغبةُ باللقاءات المؤجلة

 

هنا كان سيفُ العمر

يقطِّعُ حاجةَ الشوارع للهمس،

وينأى بجموح الشاعر الصغير

عن بلدٍ هي كل ما تحفظ القريحة

ربما عن بابٍ من حديدٍ رقيق

يعلّم عنقي دروسًا في مدّه لمقصلة النصيب

 

هناك أيامي بهيئةٍ غير التي يحفظُ

ملامحَها بلاطٌ تجرَّعَ آثارَ الأقدام الكهلة

 

أمدُّ كلَّ يسارٍ منّي نحو النوافذ

أتنفّسُ كأسطورةٍ ترفعُ الميمنات إلى أعلى

أنفاسي أحرفٌ ثقيلةٌ كالخفّة؛ تُنازلُ هذا الليل

الذي يُشاطرُ ضوءً ظلَّ على جلدي

بعد أن سكبت عليه جاريةٌ إبريقَ الدم..

 

ترى الثورة أشياء لم يرها سواها

يتحدُّ مع بصرها العماء، وأُترَك واحدًا في هدأة الليل

يهزُّني عمقُ سؤالٍ في الرأس الحاملةِ الرصاصة

كما هزّت العذراء جذع النخلةِ

فتساقط عليها الرُّطب والهويّات الروحية

لم يتساقط عليَّ إلا علامات الاستفهام.

 

4

صوتُ قططٍ جائعةٍ

يوقِظُ ليلًا غير الليل في شفتايّ

بعد أن كان أحمرٌ ما يصلي عليهما

تسأل عن طريقٍ بلا شجراتِ سروٍ

تعوّدتها أبصارُنا للإجابةِ

عمّا تحت قبّعة الغفير،

وعن الذي تحت سقف التهاويم..

 

يطلُّ سيفٌ من خيالي شرِهًا

يلمسُ خابيةَ الفصول وأذني

فتسأله سيدةٌ عن دمٍ نشّفته الأسئلة،

وإمكانية شطبه من جبهةٍ

سئمت تسابيح الطين

وعربدت رمالٌ مبتلّةٌ عليها

لأنَّ الله في العلياء يُراكمُ صورًا

بصمتِ أبٍ أغاظته سذاجة الولد

 

ظلّ سؤال العدل خطًّا مستقيما

كذلك أخوةٌ فقدوا رجوعَ أخٍ أصغر

وحقلًا تركه لهم سلفٌ ثريّ

الحوافُّ استفهامٌ عزيزٌ

عن عَرَقٍ بلون الخمر

عن شبّاك تاريخٍ للجسد

عن كلِّ باديةٍ وخافية...

 

صيفٌ علّم الذكريات كتابةَ اسمي

وغسلَ العيونِ بماءِ المقدّس..

كيف عاد الولد من مصيره؟

كيف سار إليه؟

كيف تُدارُ الرّحى بيدين من شِعر؟..

ليس من شأن الفتية الذين آمنوا بربهم

لكنّه خصوصيةُ الأمل

وقتما تصير لافتةَ بيتٍ لجائع..

 

حواسي تكلّمُ ما أريد

تفاوضه..

لي التجلّي، ولك التخلّي

سأعطيك من وهمي

إذا اللغو في فم الحقيقة ارتبك

فكل حقيقة سكّرت بعصاةِ الشاعر أذنيها،

ولم تسمع كلام الأنبياء مرّة

ما صدّقت ارتجافي

حين استنشقتُ عطرَ سيدةٍ وسطى

 

غيبُ الخطوط التي لقلبي وفيه

واضحٌ كغموضه وشاسعٌ وماكر...

الحاضرُ من شُبهتي خَرَسٌ

هزَّ الليالي المُحكَمة،

واهتزّ كقلبٍ مرّت بطيفه جارية

علٌمني إن شئت أيها الغائب

حديثَ اللهِ للأركان الخالية

للأروقة التي سجدت على أرضها أبجديةُ القتلة

لأقوى على لغةٍ

تدرُّ الملحَ في فمٍ أسعر..

 

مجاهيلُ الفِكاكِ معروفةٌ

كالسهلِ من نعتِ الظمأ

همّةٌ عاجلةٌ للجذعِ الثابت فيما لا نريد

والأوصاف سيدة السواحل

ينمو في البيد اللامعُ مما يُطِلُّ على بحرٍ أثيم

الجامدُ وحيٌ حرٌّ يُساتِرُ سجنَه

وملكًا بلا رجوعٍ؛ كمّل الأسوارَ

كلّم مرفدَ السيدات

كأنَّ رجالًا تعدَّدَ خصومَهم

حفظوا ما لم يقله السعاةُ وقت الطقوس

 

تعددت فينا خطوب من تركونا،

جسرٌ فوق خليجٍ زمنيتُهم

وإثمٌ لمن سقوا الورد، وانتبهوا..

كان المليك أنا، وأهلي مراسيمٌ

تخلّصت من نفسِها بسؤالٍ تكرر عن الدرب

عن السقاية للخالدين تحت الشمس

من أنَّبَتهم الأبجدية،

وسكبَت في أوانيهم حبًّا أفسدته

أيامٌ عتيقةٌ عند مصبات الأنهار،

وفي حلكة المدن المراهقة..

 

كلّمت الطبولُ شتاءَ صغارٍ لم يكبروا،

ولم تؤانسهُم عاهرةٌ

كالتي حفظوا جغرافيا جسدها في المطلع

لم يسقطُ على الصدرِ مطرٌ مُنتظَر

أسبابُ من ينتظرون كثيرةٌ

تخلو من يدٍ تدلُّ الله على هؤلاء الصغار

انتهوا كالصحراء في عرفِ الفتى،

وكلّمتهم رغبةُ الاستغناءِ عن الصوتِ خلسةً

فجاوروا حرفًا عتيدًا،

وتملصوا من كُنه الكلام

ولم يعودوا مرةً..

لم يعودوا..