22-فبراير-2016

مقطع من لوحة لـ زهير حسيب/ سوريا

وقفت أمام المرآة ودخلت في نقاش قصير وحاسم مع الذات الظاهرة أمامي. في رأسي ضجيج، قلبي عدو جسدي، دمي يحفر في الشريان، والشريان يسد الطريق أمامه. داخل الجسد أيضًا مجتمعات وخلافات و"تخلّ".

أنا تخليت عن أمي بعد ولادتي بقليل، وحتى اللحظة ألحّ عليها أن تناديني "بنتي"، أجبرت والدي على الزواج لكي لا ينشغل بي.. حرمته من الأبوة الكاملة بهذه الخطوة، أنا ظَلمتُ كثيرًا من الأحبة حولي في طفولتي، جدي وجدّتي أبقتهما الحرب وراء الحدود. جدّتي علّمتني حياكة الصوف لأصنع لك الشال الأحمر، وجدّي أعطاني ما يملك من اليقين كي أنتظرك. كنت أتمرن، أراقب أداء حبالي الصوتية وأنا أقول: أحبكَ.

تركني بعد أن أصبحت الكلمة جاهزة للرقص، قالها قبل أن أنطق كلمتي "العلاقة انتهت". هكذا يصبح التخلي ساري المفعول، أتحسّر، أتنهّد. الكلمة لم تخرج، فبتّ حبيسةً داخلها، كانت الكلمة ضخمة كحوت، داخل بطن الحوت جلستُ أقرأ سورة "يونس".

سأدوّنك. ما زلتَ قصيدة شفهية، قصيدتي لم تكتمل بعد، كنتُ قد وعدتك بكتابة حروف اسمك فيها مطلع كل سطر، سأكون شاعرة لقصيدة واحدة فقط، وأطبع ديوانًا يضم غلافًا وصفحة يتيمة.

"العلاقة انتهت" وتاهت الروح في رحلة منفردة إلى "جبل قاف"، وتحوّل الجسد إلى "شيء"، من منهما متهم بالتخلي عن الآخر؟. حينما كنا على بساط الحب، لم ترق لي القاعدة الرابعة من قواعد العشق الأربعين، ذلك المقطع كان مخيفًا، تفاديته، وددت حينما قرأته للمرة الأولى لو أن عيني انحرفت عنه، غرّني قول شمس تبريز أن "الحب يذيب جميع العقد"، ابتسمت وأنا أشكره إلى أن قرأت "الحب يتهدم بسهولة ويصبح ركامًا من تلقاء نفسه".

كيف حدث ذلك؟

ربما اشتاقَ وتذكر حبيبته القديمة وحنّ للماضي البعيد، ربما بسبب القرحة في معدتي وصداعي الحاد المتكرر، ربما جسدي النحيل، وارتدائي أحذية رياضية حتى في حفل أو مناسبة، ربما بسبب عدم تمكني الكامل من نطق اللغة الكردية لغتي الأم، ربما بسبب تدخيني للسجائر بشكل مخيف، لربما رأى حمامة، أو فتاة يراها أجمل مني: أقل اضطرابًا، أكثر طاعة، تعيش بعيدة عنه وكأنها معه، تختلق أعذارًا يحبذها حينما تعود متأخرة، تحسسه بأنه سعادتها، لا راحة لها بعيدًا عن عالمه، حتى حينما تجالس صديقتها تتصرف وكأنها متزوجة، لا شيء فيها يدل على أنها عزباء سوى بكارتها.

"يا نار كوني بردًا وسلامًا"، آخر ما نطقته في قلبي قبل أن أنظر إلى عينيه العسليتين، لا بني.. لا أسود. لم أتمكن من تحديد لونهما في لقائنا الأول.

هل أقول له: يا وعيي الذي سينقذني في النهاية بخروجي من الحياة لأكون نفسي، أو على الأقل لأعود إليها؟ هو القائل: يا طيري، أحمر المنقار، بنجابي الخلخال. يا "مانشيت" حياتي. فقلتُ: بعض ما أريده منك الاختباء بين شعرك، أغطي وجهي به. أما كل ما أريده: أن يدفن أحدنا الآخر حينما تحين ساعة اللقاء الأعظم، ندفن ويقول الحي فينا: أحبك. أنت دفء قلبي، يا كل البحار، يا من أستطيع تخيل تفاصيل ابتسامتك عندما أمر على رقمك المسجل في هاتفي النقال، لمن سأقوم بحياكة الشال الأحمر؟ لمن سأعزف على آلة الساز "دو سي دو سي فا صول ريه"؟

"لنلعب الطاولة" أجابني. رتبتُ له الفوز الأعظم. أخذني "خشب". هزمت نفسي لأتوّجهُ بطلًا، لو فهم لماذا جعلته يفوز هذا الفوز! لو!

لا كارثة أكبر من أن يتم التخلي عنك. كلانا على قيد الحياة! التخلي هنا قرار، ما الذي شعرت به حينما سمعت "انتهت العلاقة"؟ أنّي مزار صوفي تعرض للهدم.

حدث التخلّي بحسب روايتي. عليّ التعامل مع أسوأ ما فيه: تغير العادات اليومية من ساعة الاستيقاظ وحتى النوم. تغيرت علاقتي بالـ"موبايل"، يصعب عليّ عدم سماع كلمة "أحبك" منه صباح كل يوم. داخل النوم أيضًا احتلت الكوابيس عالمي. حلّت تمتمات غير مفهومة محل أدعية كنت أرددها حين أسمع أذان الفجر. قبل التخلي، كنت أميز العشاق عن رفقة الطريق حينما أجد فتاة تجلس قرب شاب في المترو. أراهم بطرف عيني مرة واحدة لأحسم شكل علاقتهما. بعد التخلي تصطاد عيني كل فرد يجلس أو يقف وحيدًا ويعيش مثلي حالة "تخلّي".

لتفادي السقوط، بدأت أبحث عن هزائم سابقة. لم يكن من السهل قرار النبش. الحب الجديد لا يكون حبًا إذا لم يكن ممحاة للهزائم السابقة. وجدت واحدة. نعم، الأمر ليس جديدًا وعليّ الصمود، أو حتى التظاهر به أيضًا ليس سيئًا. لكن ما حدث في نهاية هذا النبش أوقعني أرضًا: كان التخلّي الأخير امتدادًا للسابق. كيف أشرح؟ إنه جذر واحد ممتد أفقيًا تفرعت عنه عدة أشجار على السطح، كل شجرة تمثّل حالة "تخلّي". استهلكت فقط شجرتين من ثمانية.

أفكّر أن قرار التخلّي لو كان بيدي، لتراجعت تفاديًا لهذه التغيرات بحد ذاتها.

بدأت أفهم الآن كيف تستمر كثير من العلاقات رغم أنها تكون مهشّمة. إنه الاعتياد؟ لا أجزم، لكني فهمت.

ارتكبت خطأ خجلت منه. أرسلت له كل هذا الكلام في رسالة عبر الإيميل. جاءني الرد: "من شدة التعب تختفي فروقات القيمة، ويغدو التخلي عن الحبيب مثل التخلي عن ستارة غرفة نومي، هل تذكرين حالتك حين تكونين ممنوعة من النوم 48 ساعة متواصلة؟ ما الذي تتمسكين به حينها غير النوم؟ الأمر ليس خيارًا أنك تفضّلين النوم على كل شيء عداه. التعب ليس كلمة بسيطة، ليس مجرد نعاس، بل تماس مع العدم. هنا التخلي ليس خيانة، إنه العبور إلى حياة جديدة".

من لحظة كتابتي هذا النص إلى نهايته، تملكّني خوف شديد وأنا أسأل نفسي: "ماذا لو كان كل ما جاء في هذا النص هو ما قد حدث فعلًا؟".

اقرأ/ي أيضًا:

رسالة حب.. ليست الأولى

بلاط الغرباء.. من دمشق إلى بواتييه

مسرى الأطلال