31-أغسطس-2022
لوحة لـ جونيتشي دوباشي/ اليابان

لوحة لـ جونيتشي دوباشي/ اليابان

أفكارٌ ناضجةٌ عن الحزن

 

يفرغ البيتُ من أثاثِه..

أنزعُ الستارّة،

وأقول: أخرجتكِ من حياتيّ،

أيتها العتمة التي اختبأتُ تحت حبّها سنوات..

أفككُ المكتبة،

أضع الكتبَ في الحقيبة،

وأرددُ:

لن تبصروا بعد اليومِ،

امرأةً تبكي وتحاول جاهدةً

ألا يكون لبكائِها صوتٌ،

لئلا تتكسر المرآةُ، من فرطِ الدهشة..

أرمي فساتيني،

وجدائلي التي ذات يومٍ،

خافَ الهواءُ أن تلمس جلدَ غيري

وأقول:

لم يبقَ لقدميّ متسعٌ من الوقتِ،

لتركضَ خلف الريح

أفرغكَ من أثاثك

أيها البيت

لكني أدعُ النار مشتعلةً تحت إبريق الشايّ

أدعُ التراب على صورةٍ بروزتها الصدفة

أدعُ الاشياء التي أرادت أن تكون: أن تكون أبدًا

هنا، شراشفُ من ملح دموعٍ

خشيتُ أن أسمع نحيبها،

هنا زجاجا كسرّتُه

لتدخل ابتسامتي عين الجرحِ، ولا تخرج أبدًا..

كلّما فرِغ البيت، كتبتُ جملةً

الآن لم يبقَ سوى إبريق الشايّ،

لم تبق سوى صورة..

هل سيظلُّ نص أبديتي ناقصًا؟

هل سيعلقُّ في حنجرتي طائرُ الحكاية؟

ما ثمنُ الصمت

لو ابتلع البيتَ ووضعهُ في فميّ؟

 

تيك تاك، تيك تاك

الساعة الجدارية بقيّت أيضًا

في بيتٍ لا يملك مفتاحه غير أوانٍ ضائع

تيك تاك، تيك تاك

يا لجمال الغيمة

حين تمرُّ

دون أن يراها أحد،

يا لأساكَ 

حين ترى جمالها.. وما من أحدٍ

لتخبره: كم هي جميلة الغيمة

حين تمرّ ولا يراها أحد.

 

 

كينونة

 

لقد متُّ قبل أن أصل إلى هذه اللحظة،

متُّ كثيرًا

مثلًا؛

في آخر ضحكةٍ لي ابتلعتُ المدينةَ

واختنقت.

لم أكنْ موجودةً هنا..  قبل لحظةٍ من الآن

أتذكرُ

أنني كنتُ غيمةً

فاستفرغتني السماءُ دفعةً واحدة

أتذكرُ أنني كنتُ عصفورةً

فنطقتني الأشجارُ

حتى تناثرتُ قمحًا..

أما الآن؛ لا قبل لحظةٍ أعرفها

ولا بعد لحظةٍ لن افهمها

لا أعرف من أنا؟

لستُ سدهارتا الذي وجد نفسه، فعرف الآخرين

لستُ زوربا الذي فهم حياته، فمات

لستُ درويش، لأجيّب سؤالي شِعرًا.

 

سقطتُ فجأةً في حياتيّ ذات صباح

تقولُ أمي.

كبرتُ عندما لمحتُ نجمةً من باحة البيت،

يقولُ أبي.

ولكنيّ لا أقولُ شيئًا

وأتذكرُ أنني تعبتُ من كوني أشياء عدّة،

بيتًا، فنافذة، فكرسي

شجرة، فعصفورًا، فغيمة..

أتذكرُ

أنني هبطتُ على الكرادةِ مثلما

يهبطُ النصَ على الشاعر..

أتذكرُ

أننيّ صرتُ الملاكَ الذي

أمضى حياته بقلبٍ مضطرب،

بدمعةٍ خائفة

وبنصوصٍ مرتبكة.

أفرغتني السنواتُ من معانٍ لا أذكرها

أغرقتني بالشِّعر حدّ الدمع،

وحملّتني بذكرياتٍ

لا تسع لها روحًا واحدة..

 

أجلسُ الآن في غرفةٍ

بها فكرة ناضجة عن الحُزن،

براءة لم تلمسها يدِّ الحُب.

أجلسُ

محدّقة في المروحة التي تدور

وتدور

ثم تدور أيضًا

لأجد

أنني

رغم ذلك كلّه،

لم أكن شيئًا سوايّ

وكانت كل الاشياءِ.. أنا.

 

عناق الريح

 

لا أقولُ

ما عليّ أن أقوله؛

ولكنني أجهل في الوقتِ ذاته: ما أقوله؟

في دميّ دبوسٌ

يغرزني كلما قلتُ كلمة،

كلما سمعتَها، هي ذاتها، لا ما رغبتُ في أن أقوله.

في قدمي جرحٌ،

حدثَ

هو أيضًا؛ في الطريقِ مصادفةً

في يدي كتابٌ،

هو أيضًا

تبعني مثل لعنةٍ.

 

لا أقولُ ما عليّ أن أقوله،

لأن

كيف يعانق المرء ريحًا بكلمة؟

كيف يفهم البحرَ وفي يده موجة؟

وكيف يصف الصدأ

بينما يملك قلبًا من الخام؟

 

ولا يقول ما عليه أن يقوله..

هل لأن بيديهِ وردةٌ

وعلى شفاههِ دم الذكرى؟

ولأن لو حكى

لن تفهم: كيف أن قلبه صدأ

بينما لم تمسسه شمسٌ واحدة؟

 

يمرُّ المعنى؛ مفرغًا من معناه

يمر الحب؛ مرتعشًا بصمته

تمرُّ السنون جميعها،

وأنا لا أقول ما عليّ أن أقوله

لان في جيبي

كلماتٌ بيضاء،

أخاف بخروجها؛ موتها

أخاف بخروجها، نسياني كأنني مصادفة

أو خرافةٌ تعيد تأهيل النبوّة،

وأخافُ

من حروفٍ بيضاء

لو قلتها

ستلتفُ حول عنقِ الملاك

لتكتب مصيرّه.