لم تُخذَل غزة وحدها!
31 ديسمبر 2024
يستغرب البعض من حالة اللامبالاة التي تعيشها الشعوب العربية اليوم في خضم العدوان المتواصل منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 على قطاع غزة وانحراف بوصلة الاهتمام إلى بطولات كرة القدم وحفلات الفنانين وغيرها من وسائل "الترفيه والوناسة" في مختلف الدول العربية والإسلامية. لا غرابة في الأمر، فقد شهدت العديد من المدن العربية أحداثًا أشبه بغزة ودُك بعضها على رؤوس أهلها تحت وطأة المدافع وقنابل الطائرات وارتُكب فيها مجازر وجرائم يندى لها جبين الإنسانية وجرائم يعجز العقل البشري على تخيّلها، مع ذلك، لم تحُرك معظم الشعوب العربية ساكنًا تجاه ما يحصل في هذه المدن ولم تعني المجازر التي وقعت فيها شيءً للكثير من أبناء الأمة العربية، لا بل وصل الأمر بالبعض إلى التشفي بضحايا تلك المجازر وإلقاء أفظع التهم جزافًا على ملايين الأبرياء في مناطق الحروب والصراع.
الموصل أنموذجًا
كشخص موصليّ شهد أقسى الحقب دمويةً وإجرامًا في تاريخ العراق إبان احتلال مدينة الموصل من قبل تنظيم "داعش" الإرهابي في العاشر من حزيران/يونيو عام 2014، ذلك الاحتلال الذي راح ضحيته عشرات الآلاف من الأبرياء خلال ثلاثة سنوات فقط تفننت "داعش" خلالها بابتكار أفظع أشكال القتل من الحرق وجز الرؤوس مرورًا بالإغراق بالمواد الكيميائية والرمي من المرتفعات الشاهقة وصولًا إلى طحن الرؤوس بالحجارة على قارعة الطريق، وكان من ضمن الضحايا أفرادٌ من الأقارب والعديد من المعارف والأصدقاء. ووسط هذا البحر من الدماء لم نرَ أي تعاطف يذكر من الأشقاء، ووصل الحال في البعض إلى التشفي بجراحنا ورمينا بأبشع التهم، ولم يمنع هذا النزيف الهادر من الدماء أحدًا من إعلان الحداد وإيقاف الاحتفالات وجلسات السهر والترفيه، ولا زلنا نذكر احتفالات العام الجديد التي كانت تُقام كل عام في الدول العربية والإسلامية لا بل في العديد من المدن العراقية التي لا تبعد سوى بضع كيلومترات عن الموصل وبقية المحافظات التي احتلها "داعش" وأصداء الموت تسمع منها من كل جانب.
إن الدعوات والمناشدات للمنظمات الحقوقية والإغاثية وقادة الدول العربية والإسلامية بالتدخل لوقف العدوان على غزة لا تعدو أن تكون كلماتٍ جوفاء لا قيمة لها ولا وزن
ليس خذلانًا عربيًا فقط، بل فلسطينيًا أيضًا
يتجدد الحديث في كل عدوان على غزة عن الخذلان العربي وحالة اللامبالاة بالقضية الفلسطينية عند الشعوب العربية، لكن لنبقى داخل حدود فلسطين قليلًا ونشاهد ما يقدمه الفلسطينيون في الداخل المحتل لغزة وشعبها المكلوم، فمن الواضح للعيان أن هناك صمتًا مطبقًا خيّم على الكثير من فلسطيني الداخل ويراه البعض غير مبرر وسط المجازر التي يرتكبها الاحتلال بحق أهل غزة، ليس هذا وحسب بل إن الكثير من المشاهير والمؤثرين الذين نراهم على منصات التواصل الاجتماعي من سكان الداخل المحتل لم يكتفوا بعدم التطرق إلى الإبادة الجماعية في غزة وحسب بل يعيشون حياتهم طولًا وعرضًا مستمتعين بالمقالب التي يصورونها وحياة الرفاهية التي يعيشونها وكأن في فلسطين لا يوجد مدينة أسمها غزة. أضف لذلك البعض من الفلسطينيين ممن نراهم في الخارج حيث لم تمنعهم حرب الإبادة الجماعية التي يمارسها الاحتلال الصهيوني في غزة من إقامة الأفراح والأعراس والليالي الملاح في العديد من دول الشتات والمهجر.
مع ذلك، فإن تعميم تصرفات البعض من الفلسطينيين والعرب ومواقف الأنظمة والحكومات على جميع الشعوب العربية وفلسطينيي الداخل والمهجر أمر خاطئ وإجحاف بحق الملايين من المناصرين للقضية الفلسطينية والداعمين لها بشتى أشكال الدعم سواء على الصعيد المادي أو الإعلامي أو المعنوي والذين لا يملكون سواها في ظل الحصار المطبق عليهم من قبل الحكومات والأنظمة العربية المطبعة مع الكيان المحتل والتي يُعتبر الكثير منها ظهيرًا وحارسًا أمينًا لمصالح إسرائيل وأمنها.
مهما حاولت الأنظمة والحكومات حرف البوصلة عن القضية الفلسطينية وإلهاء الشعوب بقضايا أخرى وجرهم إلى مستنقع التطبيع مع الكيان المحتل، ستبقى القضية الفلسطينية قضيةً مركزيةً لجميع الشعوب الحرة
مناشدات لا قيمة لها
إن الدعوات والمناشدات للمنظمات الحقوقية والإغاثية وقادة الدول العربية والإسلامية بالتدخل لوقف العدوان على غزة لا تعدو أن تكون كلماتٍ جوفاء لا قيمة لها ولا وزن، ويثبت تاريخ الصراع مع الكيان المحتل ذلك، فلم تجني فلسطين وغزة على وجه التحديد من القادة والمؤسسات الأنف ذكرها إلا بيانات إدانة واستنكار هزيلة تفوح منها رائحة الاستسلام والهزيمة، وهذه المواقف ليست سوى امتدادًا للمواقف الهزلية منذ النكبة عام 1948 مرورًا بنكسة حزيران 1967 وصولًا إلى العدوان الأخير على قطاع غزة، وتثبت الأيام والتجارب أن العالم الذي نعيش فيه لا يحترم إلا القوي ولا يعرف إلا لغة البلطجة والعنف، ولنا في روسيا مثلٌ حيٌّ على ذلك حيث لم تبقى دولة في العالم إلا وفرضت عليها عقوبات وهددت باتخاذ إجراءات رادعة بحقها، والنتيجة كانت تمدد روسيا في الداخل الأوكراني وضم أجزاء منها لتلحقها بشبه جزيرة القرم التي أصبحت أرضًا روسية رغمًا عن أنف الغرب والولايات المتحدة الأميركية. نستنتج من كل ما ذُكر أن الحل الوحيد لمواجهة هذا الاحتلال هو المقاومة المسلحة حصرًا ولا شيء سواها، ومن السذاجة والبلادة أن نفكر بردودٍ سياسية وسلمية على كل هذا الإجرام والقتل الذي يمارسه الكيان المحتل بحق الشعب الفلسطيني من أكثر من سبعة عقود ونيّف.
مع هذا وذاك، ومهما حاولت الأنظمة والحكومات حرف البوصلة عن القضية الفلسطينية وإلهاء الشعوب بقضايا أخرى وجرهم إلى مستنقع التطبيع مع الكيان المحتل، ستبقى القضية الفلسطينية قضيةً مركزيةً لجميع الشعوب الحرة حول العالم، وأما أبناء الشعوب العربية فيعتبرون أنفسهم منتمين لهذه القضية ويدافعون عنها ليس فقط لما تعنيه لهم من اعتبارات قومية ودينية وإنسانية بل لما ندركه جميعًا من خطر هذا الكيان على بلادنا والمنطقة برمتها.