27-مايو-2020

من برنامج رامز مجنون رسمي

في يوم 12 أيار/مايو الجاري، رحلَ الفنَّان المصري إبراهيم نصر، عن عمر تجاوز السبعين عامًا بقليل، ولعلَّها مصادفة طريفة أن يكون رحيله في شهر رمضان الذي شهدَ، على مدار سنوات متتالية، نجاحَ برامجه الخاصة بالكاميرا الخفية.

لطالما أعلنَ إبراهيم نصر عن فخره لأنه الممثل الوحيد في مصر، بعد شكوكو، الذي صنعت له دُمية وراجت في الأسواق

للممثل الراحل أدوار عديدة ومتنوعة، بين المسرح والسينما والتليفزيون، بعضها إلى جانب كبار النجوم مثل عادل إمام وأحمد زكي ثم مع الأجيال الأحدث، مثل دَور الخال البدين مع أحمد حلمي في فيلم إكس لارج. ورغم تلك الأدوار فإنَّ ما صنعَ نجوميته الحقيقية وقرَّبه مِن جمهور واسع النطاق هو برامج الكاميرا الخفية التي واصل تقديمها في سنوات التسعينيات، على قنوات التليفزيون المصري المحلية، وخصوصًا مع الشخصية التي ابتكرها وأدَّاها وهي زكية زكريا، بماكياج ثقيل لسيدة غريبة الملامح، وقد تحوَّلت إلى دُمية أطفال ولطالما أعلنَ نصر عن فخره لأنه الممثل الوحيد في مصر، بعد شكوكو، الذي صنعت له دُمية وراجت في الأسواق.  

اقرأ/ي أيضًا: الكاميرا الخفية والأنظمة الواضحة

لم يكن إبراهيم نصر أوَّل مَن بدأ الكاميرا الخفية في التليفزيون المصري، فقد ظلَّت الأجنبية منها فقرة ثابتة في برامج المنوعات الخفيفة خلال الثمانينات، لكنها لم تتجاوز قَط المزاح الخفيف مع الجمهور العام، شيء لا يتجاوز الثواني المعدودة، إذ سرعان ما تتبع الضحكةُ المدرِكة للعبة علامات الاندهاش أو الخوفَ الطفيف، وهذا هو النمط الذي اتبعه برنامج إسماعيل يسري وقدّمه فؤاد المهندس لفترة لا بأس بها، ولعلَّ هذه هي البداية الرسمية لارتباط برامج الكاميرا الخفية بشَهر رمضان، شأن الفوازير وألف ليلة وليلة. لكن طبيعة المقالب تغيرت كثيرًا معَ إبراهيم نصر، إذ صارت أكثر جدية وخطورة، حيث بدأ المقلب يتخذ أبعادًا درامية، لها شخصية رئيسية وشخصيات ثانوية، وماكياج وإكسسوار وحبكة وصراع وذروة. شيءٌ قريب مِن الكوميديا والمسرح وبقية أنواع الكذب الفني المحبوب، لكنه هنا فن مُخلص للسخرية القاسية و"مَرمطة" الناس.

الفنان الراحل إبراهيم نصر

هل كان يدبر إبراهيم نصر سيناريوهات المقالب مع ضحاياه المفترضين، كما قيل أحيانًا؟ لن نعرف هذا عن يقين أبدًا. المؤكَّد أنَّ قطار برامج المقالب المستفزة انطلق ولم يعد يوقفه شيء، ففي نفس الفترة تقريبًا ظهرَ برنامج إديني عقلك، ثم بدأت موضة المقالب الموجَّهة ضد النجوم والمشاهير، ربما مع حسين الإمام في برنامج خفيف الظل لا تتجاوز مواقفه أبدًا حدود المعقول. حتَّى وصلنا إلى آخَر العنقود رامز جلال، الذي ما زال يؤكد، عامًا بعد عام، استمتاعه البالغ بإيقاع الأذى بالفنانين والمشاهير، بكل طريقة يمكن للمرء أن يتخيلها، وتبعه في ذلك بعض البرامج الأخرى قدمها هاني رمزي ومؤخرًا فيفي عبده.

على يد سلسلة برامج رامز جلال، تحوَّلت المقالب السنوية التي توقع بنجوم الفن والرياضة، كوابيس عالية التكلفة، ذات حَكبات هشّة وتصاعُد درامي مفتعل، لكنها رغم ذلك تحتاج في تنفيذها إلى جيش من الفنيين والعمَّال وصنَّاع الخدع ومتخصصي الماكياج، وإلى ميزانيات هائلة تكفي لإنتاج بضعة أفلام منخفضة الميزانية لحفنة مخرجين شباب ممَّن لا يجدون فُرصًا.

بجانب برنامج رامز الذي يوقع بالمشاهير ويرهبهم ويسخر منهم، أو يعذبهم بكل بساطة كما في موسمه الأخير، فإنَّ هناك عددًا غير معلوم مِن برامج المقالب التي تُنفذ ضد الناس العاديين. في رمضان هذا العام 2020 مثلًا، يمكن أن نحصي خمسة برامج على الأقل، مثل كريزي تاكسي والمهزراتية ومحدش فاهم حاجة (تقديم ممثل كوميدي مغمور اسمه محمد ثروت، ثقيل الوطأة يحاول محاكاة نموذج إبراهيم نصر ويُعرض ضحاياه لأصناف مختلفة من الأذى البدني واللفظي والمعنوي) والبروفة (الذي تقدمه انتصار وبدرية طلبة، قالت بدرية لأحد الضحايا في إحدى الحلقات: ما احنا هنذيع بمزاجك أو غصب عنك)، وأزمة إنسانية. من الصعب أن نعرفَ العدد الدقيق لهذا النوع، خصوصًا مع انضمام بعض الدول العربية لساحة اللعب.

على يد رامز جلال، تحوَّلت المقالب السنوية، كوابيس عالية التكلفة، ذات حَكبات هشّة وتصاعُد درامي مفتعل

ادَّعى بعض تلك البرامج وجود رسالة أخلاقية سامية لها، مثل برنامج الصدمة الذي قدّم في سنوات سابقة، وبرنامج أزمة إنسانية، حيث يؤدي ممثلين مجهولين موقفًا إنسانيًا مؤثرًا مع محاولة لتوريط الناس في الأماكن العامة مِن حولهم، وقد دفع بعض تلك المواقف أفرادًا إلى البكاء والانهيار أو الانفجار من الغضب والسخط حدَّ التعدي على الممثلين بالضرب. ويبدو أن نجاح هذا النوع من البرامج يُقاس بقدرة الموقف على استفزاز الضحية ودفعه لفقدان توازنه وعَدم السيطرة على أعصابه، أي ببساطة بقدرة الحِيلة على أن تصيب الناس بالجنون، وكأنهم تنقصهم الأسباب لذلك، وفي حلقات كثيرة سنجد الناس، بعد اكتشاف المزحة الثقيلة، وانكشاف الوجه السَمج للمهرجين المأجورين، يتساءلون بنبرات تتراوح بين السخط المكتوم وعدم التصديق والفرح بالنجاة رغم ذلك: "يعني يصح كده؟ - حرام عليكم والله- مقلب ايه وبتاع ايه بس؟ إلخ..."، لكن لحظات وعبارات مثل هذه لا تؤثر في مواصلة المسيرة المجنونة.

اقرأ/ي أيضًا: كيف أثبت رامز جلال أن الشهرة لا تعني النجومية؟

لهذا مِن حقنا أن نتساءل: أي مدى قد يبلغه هذا الجنون في المستقبل إذا واصلَ الأمر تطوره أو انحداره بالأحرى؟ فَهل يمكن أن تغزو دولة جارتها ذات يوم على سبيل الدعابة في برنامج رمضاني؟ هل يمكن أن نتقبل بعد فترة فِكرة تفجير مبنى أو عبوة ناسفة في مكان عام، لغرضٍ نبيل أو لمجرد رصد ردود أفعال الناس العاديين، الناجين منهم على الأقل؟ يعني باختصار: مَن الذي يحدد الخط الفاصل بين المزاح الخفيف والتجربة الفنية الملعوبة وسط الناس وبين إنزال أذى حقيقي بهم، نفسيًا وجسديًا؟ غير أن أسئلة من هذه النوعية لا تشغل بال منتجي ومنفذي برامج المقالب بالمرة، فالأهم ضمان تدفق الإعلانات التجارية وتسلية المشاهدين، الذين هُم ضحايا محتملون.

انتصار وبدرية طلبة في برنامج البروفة

كُلَّما ابتعدت اللعبة عن الفن اقتربت مِن الاحتيال والخداع، فالمتفرج هنا انجرَّ إلى المسرحية وصارَ ضحية أهواء وتآمر مجموعة من البشر تتسلى عليه وتجني الأرباح على حسابه، وأصبح مشاركًا غير مدفوع الأجَر، مشاركًا رغم أنفه، وهكذا نكون جريمة نصب شبه مكتملة ضد الناس من المفترض أن يعاقب عليها القانون، لو انتبه الناس أو انتبه القانون.

يجد صُنَّاع التسلية التليفزيونية في رجل الشارع مصدرًا رخيصًا لإنتاج الضحك، لا يحميه منهم شيء، فلن نرى في أي مقلب رجل شرطة واحد يسارع لمكان اللعبة لحسم الموقف، كما لن يلجأ المخدوع نفسه لذلك، فكأنه يعرف سلفًا عدم جدوى الاعتماد على شيء غير نفسه بقدراته المختصرة في السباب ومقابلة العنف بالعنف. ليس لهذا الشخص حقوق أو قيمة كإنسان أو مواطن، لذلك فهو غنيمة متاحة أمام مَن يريد الاستغلال أو التلاعب أو التهريج، فكان مِن الطبيعي أن تتصاعد وتيرة العنف والسخرية والأذى ضده مع مرور السنوات.

يجد صُنَّاع التسلية التليفزيونية في رجل الشارع مصدرًا رخيصًا لإنتاج الضحك، لا يحميه منهم شيء

وإذا كانت المزحة اللاذعة، على مدار عقود عديدة، ظلَّت ملاذًا للشعوب المقهورة، مِن أجل التنفيس عن الكبت والقهر وإذابة علقم أيامهم في قليلٍ مِن سُكَّر الضحك، فلم يعد هذا السلاح مِلكًا لهم الآن، بل صار عليهم لا لهم، مثل أشياء أخرى عديدة. بالتدريج، صارَ موضوع الضحك وضحية السُخرية هو الإنسان العادي البسيط، مَن يعمل في أماكن عامة أو يسير في الشوارع أو يقضي مصالحه بنفسه على قدميه، أي الإنسان غير المحصَّن وراء أسوار ثروته وسلطانه، بل المكشوف والمعرَّض لكل ألوان التحامل والضغوط والتلاعب.

اقرأ/ي أيضًا: شاهد.. أكثر 5 مقاطع "زكية زكريا" شهرة للفنان الراحل إبراهيم نصر

ثم صارَ هذا الإنسان العادي نفسه يسخر من نده وشبيهه حينما يراه يتجرَّع المقلب على شاشة التليفزيون، كأنه يتلذذ بالسخرية من نفسه وإرهابها ودفعها للجنون، أو كأننا نتمادى في تعاطي ما يلهينا عن جميع ما يحيط بنا من تهديدات ومخاوف بينما نشاهد فزع الآخرين، فَهل تبدو حياتنا الآن بكاملها وقد تحوَّلت إلى مقلب ثقيل لا ندري مَن الذي دبَّره لنا؟ وهل نلعب فيه دور الضحية الساذجة برضائنا وتواطئنا، أم دور الأشرار الذين يحبكون الفخ حول قدميّ الضحية؟ أم أننا صرنا نتماهى مع ضحك الجلَّاد بقدر ما نبكي مِن لَسْع سِياطه على ظهورنا العارية؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

مسلسل "سوق الحرير".. الشام المُتَخَيّلة مرة أخرى

دراما البروباغندا العربية من النجاعة إلى المسخرة