29-مايو-2016

لميس سعيدي

ارتبط الحضور الشعري للجزائرية لميس سعيدي بعنصر المفاجأة، بدءًا بظهورها دفعة واحدة قبل سنوات قليلة، فكأنها كانت مكرسة منذ عشرات الأعوام، من غير أن تتورط في تفاهات الظهور التي تمارسها بعض الشاعرات، معتمدات في ذلك على ما هو خارج النص ومكابداته.

تفقد الشعرية النسوية في الجزائر نخبة من الشاعرات إما بسبب الانتحار أو الانسحاب أو الزواج

حين أصدرت ديوانها الأول "نسيت حقيبتي ككل مرة" عام 2007 عن "دار النهضة" اللبنانية، كانت الشعرية النسوية في الجزائر، فقدت نخبة من الشاعرات إما بسبب الانتحار أو الانسحاب أو الزواج، وإما بسبب الترهل رغم استمرار التواجد أو الانخراط في هواجس جامعية أو النزوج إلى جنس أدبي آخر، ولم يبقَ لها من أنساغ تغذيها ما عدا تجارب تعد على أصابع اليد الواحدة، فغذتها بأسئلة وهواجسَ جديدة وبسيطة في الوقت نفسه، تتعلق باليوميّ الذي نعيشه باعتباره فعلًا مكررًا لا باعتباره فرصة إضافية لممارسة الحياة.

اقرأ/ي أيضًا: واسيني الأعرج.. ملهاة الجوع والغربة

ليس النسيان المتكرر للحقيبة إلا تنصلًا مقصودًا من الذاكرة الجاهزة، لصناعة ذاكرة جديدة تنتهي بانتهاء اللحظة، فاللحظة في المنطق الشعري للميس سعيدي تأخذ قيمتها بأن نعيشها لا بأن نتذكرها، ذلك أن الشاعر ليس مؤرخًا إلا في حدود ما يفرضه الجمال. تقول: "اكتشاف أن العالم ليس تمامًا ما يبدو عليه، هو الذي دفعني إلى تجاوز ذلك الشكل الكاريكاتيري الخارجي، ومحاولة صياغة العالم من الداخل كما أراه، وربما بنفس سخرية رسَّام الكاريكاتير".

هذه الروح أعفتها من الحاجة إلى من يشرح لها سيكولوجية أبطال دوستويفسكي والدراما المعقدة في أعمال شكسبير وعبثية بكيت وجنون هنري ميشو، والروحانيات العاقلة لجبران، وفكر طه حسين وفلسفة طرفة بن العبد، وكلهم ظهروا بشكل أو بآخر في ديوانها الثاني "إلى السينما" الصادر عام 2010 عن "دار غاوون".

تجربة تحتفي باللحظة بما هي صورة، وبالصورة بما هي خطاب ينتصر لفن العيش. "حالة الإنسانية الخاصة تحتاج إلى لغة خاصة، من هذا المنطلق أحاول استجماع ملامح قصيدتي، لغةً وحالةً فنية ممايزة، هذه الملامح التي تبقى مفتوحة، ما دمت أبحث دائمًا عن شباك جديد وعن لغة جديدة يتسلل من خلالها ذلك الهواء الخالص.. هواء الحياة".

لميس سعيدي: الكتابة والقراءة عندي فعلان مرتبطان بالحوار والإنصات إلى من هم مثلي

اللغة المهوّاة بشغف الحياة وعناصرها المحرضة على السؤال في قصيدة لميس، لا تفكر في التعبير عن الذات الشاعرة فحسب، بل في التعبير عن الذات القارئة أيضًا، ليس من باب استثارة إعجابها/تصفيقها أو رضاها الأخلاقي، حتى إنها تتحول إلى شرطي قابع في مفترق الطرق، بل من باب متعة الشراكة والمرافقة، فمنطلق الشعر موغل في الذات كما هي من غير تحوير، وأفقه موغل في "الجماعة الشبيهة". "الكتابة والقراءة عندي فعلان مرتبطان بالحوار والإنصات إلى من هم مثلي، أقصد الذين يؤمنون بأن العالم ليس تمامًا ما يبدو عليه".

اقرأ/ي أيضًا: مرتضى كزار.. الرواية ضرب من التأريخ

نشأت لميس سعيدي في بيت مفخخ بالكتب، ذلك أن والدها المسكون بالشعر والفلسفة والتاريخ والسياسة وعلم الجمال وضعها في هذه المناخات مبكرًا من غير أن يوجه أصابعها أو خطواتها أو رغباتها. "حين أفكر مليًا بنشأتي، أجد أن كلمة السر هي "الحرية"، فدائمًا ما تمتعت بنسبة كبيرة من الحرية في التعبير عن آرائي وغضبي وأحلامي وهواجسي، وربما هذا الذي جعلني لا أتعامل مع الكتابة على أنها نوع من التحرر بل على أنها وطن الإنسان الحر".

رحيل هذا الأب المتحرر من عقد الشرق عام 2014 أحال لميس على تجربة جديدة كتبت في المقام المشترك بين الشعر والسرد والفلسفة والسينما والتشكيل والمسرح والتصوير، فكان عصيًا تصنيفها خارج "النص الحي" الذي يرثي إنسانًا حيًا كان يختزل العالم الكبير في غرفة صغيرة.

حملت التجربة الصادرة عن دار العين المصرية مطلع عام 2016 عنوان "الغرفة 102"، وهو رقم الغرفة التي قضى فيها الوالد الذي عاش زاهدًا في الحديث عن نفسه أيامه الأخيرة في المستشفى الباريسي. هنا عجنت الكاتبة التاريخ والجغرافيا والسياسة والفكر والفلسفة في سيرة رجل، لتجد نفسها قد كتبت سيرة جيل ثوري جزائري خرج من جرح الاحتلال إلى جرح الاستقلال، وهل "الكتابة إلا انفتاح جرح ما" كما قال كافكا؟

اقرأ/ي أيضًا:

أطياف رضوى عاشور.. خفة لغة الحكاية

6 من أبرز المترجمين العرب الشباب