13-فبراير-2016

صفحة من النسخة العربية من كليلة ودمنة، مؤرخة 1210 م. ملك الغربان يتشاور مع مستشاريه

لا شك أن الغراب قبل كل شيء نوع من أنواع الطيور، ولا شك أيضًا أن مثله كمثل باقي الطيور لم يحدث خرقًا في الطبيعة، فهو على كل حال لا يملك سوى الريش الأسود الفحمي، وأحيانًا ممزوجًا بالأبيض على اختلاف نوعه، ومنقاره القصير نسبيًا وخمسة مخالب عادية، وفضاء وبيئة يعيش فيهما ويقضي أوقاتًا ممتعة وعصيبة بين اقتناص فريسته والمطاردات مع الطيور الجارحة الأخرى التي تحاول أن تفترسه أحيانًا، وهذه التفاصيل غالبًا ما نجدها في الكثير من أنواع الطيور الأخرى، غير أن الغراب يتمتع بصفات أثارت الغرابة لدى البشر مما أدى إلى استنكاره واعتباره رمزًا للتشاؤم والنحس عند بعض الشعوب، وعند البعض الآخر جعلته تلك الصفات رمزًا للسلام والتفاؤل، ولكن الغريب في الأمر أن العرب هم الذين يتشاءمون من هذا الطائر ويكرهونه كرهًا شديدًا، والأسباب غير منطقية.

يتمتع الغراب بصفات أثارت الغرابة لدى البشر ما أدى إلى استنكاره واعتباره رمزًا للتشائم والنحس

يتثمل ذلك الاستنكار والكره الشديدين للغربان، عند غالبية العرب، في التشاؤم من تواجده قرب البيوت والمزارع وجميع الأماكن التي يتواجدون فيها، حتى الصحراء، وقد نتج عن ذلك -الكره التاريخي لهذا الطائر- الكثير من الألفاظ والتصرفات التي تنم عن الكره والاستحقار، ففي اللغة العربية، هناك الكثير من الأمثلة والألفاظ التي تبين كره العرب للغراب مثل: "صُرَّ عَلَيْهِ رِجْلُ غُرَابٍ" أي ضاق عليه الأمر أو المعاش، "طَارَ غُرَابُهُ" أي شاب رأسه، "غُرَابٌ أَبْقَعُ" أي خبيث، "لاَ يَطِيرُ غُرَابُهَا" يقال للأرض الخصبة كثيرة الثمار، "وَجَدَ تَمْرَةَ الغُرَابِ" أي وجد ما أرضاه.

وباللهجة المصرية: "يا فرحة ما تمت أخدها الغراب وطار". يقال على الفرح الذي يعكر صفوه شيء فلا يكتمل. "ياما جاب الغراب لأمه". أي أنه لا قيمة لما جلبه شخص لآخر. أما على صعيد الأدب فهنالك الكثير من القصائد والأبيات الشعرية العربية التي تسخر وتذم ذلك المسكين: "فأنسي ممشاه ولم يمش كالحجل/ وكم من غراب رام مشية قبجة". وفي أبيات أخرى: "إن الغراب كان يمشي مشية/ في ما مضى من سالف الأجيالِ/ حسد القطاة ورام يمشي مشيها/ فأصابه ضرب من العقال/ فأضل مشيته وأخطأ مشيها/ فلذلك سموه أبا المرقال". وفي معجم اللغة العربية أيضًا، كان له نصيب من الكراهية فلقد اشتقت عن اسمه ثلاث مفردات قد لا يفضلها الكثيرون: الغربة، الاغتراب، والغريب. أما على صعيد التصرفات تجاه الغربان فإن الغالبية من العرب إذا رأوا غرابًا في أي مكان يقدمون على قتله فورًا.

اللافت في الأمر أن كل ما ذكر أعلاه عن الحقد الدفين عند العرب تجاه هذا النوع من الطيور على وجه الخصوص ليس له أسباب منطقية، فإن بعض تصرفاته العدائية والتي تتمثل في لحاق الحيوانات الأخرى التي تعاني من جرح ما في جسمها ونقر ذلك الجرح ليس إلا تصرفًا عاديًا نسبة لعالم الطبيعة والحيوانات، فحين سألنا صاحب "مدجنة" عن الصيصان الصغيرة في بداية تربيتها وبالتحديد عن التصرفات العدائية، بادرنا القول: "إن الصيصان إذا ما رأت أحد أفرادها قد جرح، تجتمع عليه عدة صيصان أخرى وتقوم بنقر الجرح حتى يموت ذلك الفرخ الجريح"، ويضيف محدثنا: "أن الصيصان تقدم على هذا الفعل نتيجة كرهها للون الأحمر".

فلماذا لا يحقد العرب على الصيصان أيضًا؟ وأما بالنسبة لتجمع الغربان حول جثث بني جنسها الأموات ونعيقها بشكل غريب، فهو أمر يفعله البشر، حين يندبون موتاهم ويدفنونهم، وحتى الرواية التوراتية، بغض النظر عن مدى صحتها، التي تقول بأن نوحًا أرسل الغراب ليستدل على اليابسة، فوقع على جيفة وتأخر في تنفيذ مهمته، لا تعطي الحق لنا أن نكرهه بهذه الطريقة ونتشاءم من وجوده، فهنالك رواية قد تكون أكثر وضوحًا تصب في مصلحة نقاء هذا الطائر وبراءته من جميع تلك التهم وهي الرواية الإسلامية، علمًا بأن المسلمين أنفسهم آثروا الرواية التوراتية على الرواية الإسلامية نتيجة كرههم لهذا الطائر.

تروي القصص الإسلامية عن الغربان أنها تعيش حياة منظمة على صعيد العدالة القائمة بين الغراب وبني جنسه

ورد ذكره في القرآن، في سورة المائدة: "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ /27 لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ /28 إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثـْمِي وَإِثـْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ /29 فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَه فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ /30 فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ /31.

ولقد جاءت تفاسير علماء المسلمين لهذه الآيات أن الغراب أتى ليعلم الإنسان العدل أولاً، وكيف يواري الأخ سوءة أخيه ثانيًا، وفي قصص إسلامية أخرى عن الغربان أنها تعيش حياة منظمة على صعيد العدالة القائمة بين الغراب وبني جنسه، حيث تقول بعض القصص أن للغربان محكمة تتشكل بالفطرة في عالم هذه الطيور حيث تتمثل تلك المحكمة في عدة أحكام على عدة جرائم تحصل فيما بينها ومنها: عندما يقوم أحد الغربان باحتلال عش ليس له، أو تخريبه، تقضي هذه المحكمة بإلزام المعتدي ببناء عش جديد لصاحب العش المعتدى عليه.

أما جريمة الاعتداء على أنثى غراب آخر، فالحكم هو الإعدام وتنفذه مجموعة من الغربان بحق المعتدي ضربًا بمناقيرها حتى الموت وعندها يحمله أحد الغربان بمنقاره ليحفر له قبرًا يتلاءم مع حجم جسده فيضعه فيه، ثم يهيل عليه التراب احترامًا لحرمة الموت.

بعيدًا عن الغوص فيما إذا كانت تلك القصص واقعية أم مجرد خيالات، وما مدى دقة تلك المعلومات ونسبة مصداقيتها، هناك سؤال يطرح نفسه، ما دام الغراب فيه كل تلك الصفات الحميدة ما السر وراء استنكار غالبية العرب له؟ الجواب: خطأ تاريخي بحت، يجب على العرب إعادة النظر فيه والتسامح مع هذا الطائر الجميل.

اقرأ/ي أيضًا:

في عيني قبران

تاريخ كلمة "لي لي ليش" وحقيقة معبد "لالش" الأيزيدي