18-ديسمبر-2016

عند القدوم للسياسة تختفي الحقائق وراء تمثيل الانتماءات والدفاع عنها (Getty)

الأشخاص يفقدون القدرة على الفهم السليم للمشاكل التي تقترب من انتماءاتهم الأيديولوجية.
-خان: الناس عقلانيون للغاية عندما يخدعون أنفسهم.

البشرية تحولت إلى مجموعات محمية بهوياتها، وأي شخص يهدد انتماءها سينبذونه سياسيًا واجتماعيًا ودينيًا.

قد تقابل أشخاصًا مستنيرين أذكياء في حياتهم الشخصية، أصحاب مستوى مهني احترافي، وراقيين في الذوق والتعامل، ولكن بمجرد أن نتناقش في أمور سياسية تجده قد تحول إلى متعصب إسلامي أو مسيحي، أو متشدد لمستبدين يسومون شعوبهم ألوان الذل والدمار. حتى في أكثر المجتمعات ديمقراطية نجد دوائر تنتخب المرشح الأكثر تعصبًا وتفاهة، وتترك مرشحين أكثر وطنية وانتماء للإنسانية وذكاء.

لعلك تساءلت إذا كنت من المؤيدين لثورات الربيع العربي من هؤلاء الذين يؤيدون الطغاة، من الذين يرفعون السلاح ويشبعون الشعوب قتلًا وتدميرًا، لماذا يرى الشيعة في شرق السعودية وجنوب العراق ولبنان الأمور من منظور مختلف بشكل جذري، عن السنة في شمال ووسط العراق وغرب وجنوب سوريا، كل هذه التساؤلات التي شغلت الكثيرين سنحاول العثور في هذا المقال على إجابة علمية لها.

البشرية تحولت إلى مجموعات محمية بهوياتها، وأي شخص يهدد انتماءها سينبذونه سياسيًا واجتماعيًا ودينيًا

نشر موقع "فوكس" الأمريكي تحليلًا يحاول الإجابة على تساؤل لدى الكثير من الناس: لماذا تجعلنا السياسة أغبياء؟

اقرأ/ي أيضًا: من فرانكو إلى السيسي.. الدكتاتورية حظوظ!

يعتمد التحليل على مسح قام به البروفيسور "دان خان" في جامعة يالي لاو ويعمل مع المؤلفين المساعدين إلين بيترس، وإريكا كانتريل داوسون، وباول سلوفيك.

في محاولة لمعرفة لماذا لا يتناقش الناس في موضوع مهم مثل التأثيرات المناخية، وهو موضوع يمكن أن نرقيه على أي موضوع سياسي آخر، فيرجع خان وزملاؤه مشكلة عدم المناقشة الموضوعية بالأساس إلى أن "العامة لا يعرفون بشكل كافٍ عن العلم ليحكموا على المناقشة".

وفي مسح آخر توصل خان إلى أن المهارات الرياضية موجودة لدى الناس الذين يعتقدون أنهم لا يمتلكونها بشكل أكبر من الذين يعتقدون أنهم يمتلكونها، ثم قدم لهم أسئلة سياسية حول أمور سياسية أمريكية تتعلق بالسماح بحمل السلاح للناس، والإجابة كانت بأن الناس تصل إلى إجابات صحيحة عندما يكون الأمر بعيدًا عن أيديولوجيتهم، ولكن عندما تقترب منها يفتقدون القدرة على الإجابات الصحيحة، والفهم السليم، بما يعني أن الأيديولوجيا في النهاية هي التي تسوق.

الأفراد تقاوم بشكل لا شعوري المعلومات الحقيقية التي تهدد قيمهم التي يعرفون أنفسهم بها

الشخص المتميز في الرياضة لا يساعده تميزه في التركيز على الإجابات الصحيحة، التحزب السياسي يجرفه بعيدًا، الحزبيون الذين لديهم مهارات رياضية ضعيفة 25% فقط من نتيجة الاستبيان يميلون إلى الإجابة الصحية، والحزبيون أصحاب المهارات القوية يميلون بنسبة 45% إلى الإجابات الصحيحة عندما تتلاءم مع أيديولوجيتهم.

والخلاصة: "الأذكياء تجعلهم السياسة حمقى".

وبعبارة أخرى، يضيف موقع "فوكس" الأمريكي، النتائج كالتالي: كونك الأفضل في الرياضيات يقلل من احتمال حل الحزبيين للمشكلة بشكل صحيح عندما يعني حل المشكلة خيانة غرائزهم السياسية، هم لا يمنطقون الإجابات الصحيحة إنهم يمنطقون الإجابات التي يريدونها أن تكون صحيحة.

واكتشف خان أداءً مرعبًا للاستجابات للمشاكل العلمية، حيث عرض على المشاركين دراسات ببيانات وإحصاءات واقتباسات بعضها خاطئ ولكنها تبدو مقنعة، فوجد أن المتشككين باتوا أكثر تشككًا في مشكلة المناخ، والمتيقنين من أننا نواجه كارثة مناخية باتوا أكثر تيقنًا، وكل طرف يميل إلى إضفاء صفة "خبير" على العالم الذي يطرح رؤية تتفق معه، وعلى تجريد هذه الصفة من العلماء الآخرين.

يقول خان: منطقنا يصبح مبررًا عندما نتعامل مع أمور حيث الإجابات يمكن أن تهدد قبيلتنا أو على الأقل موقفنا الاجتماعي في قبيلتنا، وفي هذه الحالات، يضيف خان، نكون بشكل مثالي عقلانيين عندما نخدع أنفسنا.

اقرأ/ي أيضًا: انقلاب ماذا أيها الأبله؟ (1-2)

يرسم خان المسار المهني لعالم يغير رأيه، نفرض جدلًا أن عالمًا اقتنع وروج لعدم وجود تهديد مناخي على الأرض، وهو محافظ سياسي، يتابعه جمهور المحافظين في أمريكا، وتروج له القنوات والصحف والمواقع المحافظة، ثم غير رأيه، في البداية سيظن المحافظين أنه يمزح، ثم يصبحون أكثر عدائية حياله، وينظمون مقاطعات لبرنامجه، ويشنون حملة صليبية على فكره، وأصدقاؤه في الميديا يحاولون إثبات كذبه وبهتانه، وفي النهاية، يقول خان، أن مسألة تغيير الهوية لهذا العالم أو غيره من محافظ إلى ليبرالي "أو من فلولي إلى ثوري أو من سني إلى شيعي، هي "عملية نفسية وحشية" لأي إنسان.

تمثل ثورة 25 يناير في ميدان التحرير الوعد الإنساني بأن مجتمعًا ما يلتف حول قيم إنسانية مطلقة "عيش حرية عدالة إنسانية"

ويخلص خان إلى أن الناس تعيش حالة إدراكية يسميها "إدراك الهوية المحمية"، يعرفها: إنها طريقة في تجنب النفور والعزلة من الجماعات التي يقيمونها بشكل إيجابي، والأفراد تقاوم بشكل لا شعوري المعلومات الحقيقية التي تهدد قيمهم التي يعرفون أنفسهم بها.

وبشكل بلاغي أكبر يقول خان: ما نعتقده عن الحقائق يخبرنا من نكون.

لهذا يميل الناس للتصرف بعدائية لكل من يمثلون تهديدًا لـ"إدراك هويتهم المحمية" سواء كان دينًا أو أفكار سياسية واجتماعية، لذلك فمن الحكمة أن يحافظ الناس على علاقاتهم بعيدًا عن النقاشات المتعلقة بالهوية. ومنذ بدايات القرن في كل مجتمع تحولت التكتلات إلى "هوية محمية" إذا كنت تعيش في لبنان مثلًا، ستجد مهما كان ذكاؤك وتعليمك منتميًا لدائرة معينة مسيحيين شيعة سنة دروز، ولن تسمح لأي فرد أيًا كان نبوغه ومعرفته أن يهدد "هويتك المحمية".

لذا تمثل ثورة الخامس والعشرين من يناير في ميدان التحرير الوعد الإنساني بأن مجتمعًا ما يلتف حول قيم إنسانية مطلقة "عيش حرية عدالة إنسانية"، لكل فرد فيها كرامته بعيدًا عن هويته، عن انتمائه الديني أو السياسي أو المذهبي أو الطبقي، لذا استفز الحراك الثوري الناس "المحمية بهوياتهم الدينية وغيرها" والسلطات ورجال الأعمال ضدها، وباتوا يكرهونها أكثر من كراهيتهم للفساد والاستبداد، لأن البشرية تحولت وفقًا لخان إلى مجموعات من الناس محددة بانتماءاتها وأي فكرة أو شخص يحاول تهديد "هوياتهم المحمية" سينبذونه من وسطهم، سياسيًا واجتماعيًا ودينيًا.

اقرأ/ي أيضًا:
تاريخ من الخرَس
لعنة الانتماءات