22-مارس-2019

عادل عبد الصمد/ الجزائر

للإجابة عن هذا التساؤل المحوري، لا بد لنا من طرح سؤال آخر مقترن بإجابة مباشرة وراءه، لكي يتضح لنا أكثر لماذا نكره الفن؟ والسؤال الذي يدفعني إلى طرحه بشكل مُلح هو: هل نملك ذائقة فنية؟ أو بمعنى آخر هل نجرّب كأفراد أن تكون لنا نظرة مستقلة ومحايدة عن تلك الممارسات الفنية بمختلف أنواعها وتلاوينها؟

الفن نشاط إنساني يعبّر من خلاله الأفراد عن حالات متنوعة ومنفردة داخل الكينونة النفسية والاجتماعية

ستكون إجابتي بـ"لا" شافية ومرضية، بالنسبة لي على الأقل. أعلم أن التجاوب مع هذا الطرح قادر على أن يفصل القراء إلى نوعين، الأول يشاطرني الرؤية ويتلذذ ضمنيًا بما أطرحه من أفكار ويشفي حماسه المجروح؛ والثاني الذي نحتاجه لكي يبادل معنا الاختلاف، ليس لتعميق الفجوة بين الرأيين، بل لإثراء المادة وتنويع المحتوى، والأهم أن نفتح زوايا أخرى للنقاش، نستطيع النظر من خلالها لتبيان القصور في المعالجة.  

اقرأ/ي أيضًا: 8 من أغاني الأسماء العربية

لا بد من إيضاح الارتباطات التاريخية والدلالية حول إمكانية الفن باعتباره نشاطًا إنسانيًا يعبّر من خلاله الأفراد عن حالات متنوعة ومنفردة داخل الكينونة النفسية والاجتماعية، وحتى السريالية البعيدة عن الواقع الملموس إلى الواقع الأفلاطوني أو المثالي، وهذا لا يضر بالفن شيئًا، أي التعبير المرادف للواقع الأخر، وفي الأخير نعبر للضفة ثانية إلى أرضية أخرى، والتي تتعلق بالثقافة العربية المستقبلة للفن، والتي سندحضها في الكثير من المواقف ونبين مواطن العجز في رؤيتها للفن والفنانين.

في زئبقية تاريخ المصطلح 

لا نحتاج لفعل الخوض في مفصلية تاريخ المصطلح أو الدلالات التي تشير إليه، أو المعاني المرتبط به بشكل من الأشكال، وحتى وإن كانت ملصقات نابعة ومعبرة عن الفن كمصطلح تاريخي، إلا أن علينا أن نكون أكثر تنويرًا في التعامل مع المصطلح بشكله الحديث، أو أكثر عقلانية في تحليله بوصفه تركيبًا للكثير من المحطات التاريخية، بدءًا من شعور الإنسان في ضرورة اكتشاف نفسه والمحيط به من خلال كالتعبير عنه بكل الأشكال والأدوات المتاحة أمامه (الرسم، النقش، صناعة الأسلحة)، والتي كانت تعتبر مجهود (إنسان + عقل + تراب) والتي نعتبرها المعادلة الصحيحة الثلاتية في إنجاز أو إظهار الفن للحقيقة أو إلى النور، وإكسابه الطابع الفني البيئي أو الجغرافي، ولذلك المتتبع لتاريخ الفن يجد بأن الفنون في بادئ الأمر كانت هي إنتاجات ضعيفة نسبيًا –و اقصد هنا الكثافة العديدية (الكم)- بتلك التي تزامنت مع عصر النهضة ومرحلة الإصلاح والتنوير والعلم في أوروبا والعالم، فكانت لحركة الفن أيضًا دورة مبشرة وثرية في أجواء الحضارة العربية والإسلامية كالأندلس على سبيل المثال لا الحصر.

فايزة بايو/ الجزائر

الفن بمفهومه المتباين والراجع لخصوصية طبقية أو تشريحية إجتماعية هو تلك الروح العليا المتمثلة في فقرات السعادة والنشوة الطبيعية التي تعيشه هذه الروح مع هذه التمثلات التي أمامها بصفة مباشرة ومقصودة كالمسرح، أو بصفة يومية كالموسيقى والهندسة المعمارية، التي أسس روادها أصحاب مدرسة شيكاغو في الولايات المتحدة الأمريكية ما يخص الطابع العمراني والحضري المتشكل وفق نظريات وقياسات فنية خالصة.

 يعتبر مرور الفن في أوروبا نقلة نوعية، إذ صقلت هذا المصطلح بشكل أوسع وأكثر حرية وأكثر تعبيرًا، حيث إن الفن عرف تطور ملحوظ في المحتوى بشكل غرائبي، وهذا راجع للتطورات الراديكالية التي حصلت داخل البنية المهيكلة للمجتمع الأوروبي، ومع رواده الذين أضحوا مساهمين في تشكيل اللوحة العملاقة بمختلف الألوان والطبائع والفلسفات والإنتاجات الفكرية، لكي يقدر المجتمع أن يشعر بمقدار ذاته وأن يستطيع التحرك بسهولة وحركية شديدين، حيث إن المجتمع في بعض الثقافات يُرى من خلال ما يقدمه المساهمون في عملية إثراء الفن، فهناك علاقة طردية منطقية تنص على أنه كلما كانت الإسهامات الفنية أكثر كثافة ونوعية وقادرة على تلبية متطلبات ومتطلعات النخبة والعوام داخل الكيان الاجتماعي، أصبح المجتمع بدوره أكثر قدرة على الاستمرار والتنوع من حيث مخرجاته في كافة مجالات الحياة، وفي مقابل ذلك يصبح العكس صحيحًا.

في العالم العربي، أصبح الفن يعاني من التشويه المتعمد من خلال أجهزة السلطة

أما في الثقافة المحلية فكان هناك نوع من التداخل أو الاشتراكات بين كل مرحلة وأخرى، فالفن في هذه المجتمعات عرف منحى إيجابيًا في مرحلة من المراحل التاريخية، إلا أن بعد ذلك أصبح الفن يعاني من التشويه المتعمد من خلال أجهزة السلطة، لكي يقدر على الاكتفاء بالموجود، وكذا الحد من الفعاليات التي تظهر حقيقة الطبقة الحاكمة، ومن هنا بدأت تلك الخطط التضيقية على الفن والفنانين بحكم مخالفة الشريعة الدينية والفقه الإسلامي والعرف الاجتماعي، أو من منطلق مخالفة الكفار، وهذا من خلال خونة الفن أو ما أسميهم فناني البلاط، الذين شوهوا مثالية الفن بتطبيعهم مع السلطة السياسية، عبر لعبة شديدة التحكيم لا زلنا نعاني منها في الفترات الحالية.

اقرأ/ي أيضًا: "أكوان" معرض بسّام كيرلس.. الحرب ذاكرة المباني

إن الفن هو القدرة على التكيف مع المجتمع والذات بطريقة ما هو كائن، وما هي الطرق المثلى لإيجاد صورة سليمة عن المجتمع أو في بعض المرات الخروج عن صندوق العُرف إلى نوع من الاستشراف الذي لا نعلم كيف ستكون هيئته، في كتابات الأديب الروسي ليو تولستوي بماهية الفن، يتضح جليًا بأن ارتباطات الكاتب مع الإسهامات البشرية الحقيقية والمبهجة منها هي روحية جمالية، وتعتمد على رؤية الفن بأنه نافدة لتغذية وإشباع الحياة الداخلية لإبعاده عن مشاكل الحياة المختلفة أو الضغوطات المهنية، فالمعزوفة الموسيقية هي إنتاج بشري نفخ الله فيها من روحه لكي يشعر الأفراد بأن ما وصلهم من لذة إشباعية بإختلاف درجة وقعها هي في الحقيقة صورة الجمال الرباني، وفي مؤلفه الشهير "ما هو الفن؟" تعتبر محاولة ليو تولستوي محاولة رمزية فلسفية في أعطاء الأبعاد الجمالية للفن.

خطابات حول الضغينة الفن في العالم العربي والإسلامي

إن عودة الفن بحلته الحالية الخالية من الشوائب الأيدولوجية والدينية والسياسية في العالم العربي، يحتاج الى مرحلة أساسية كانت تطلق عليها في مرحلة سابقة بالتجاوزية التي مر بها الفلاسفة والمفكرون، فالمرحلة العكسية التي كانت تقابلها ظهرت في المجتمعات المحلية خصوصًا، والتي تعتبر على أنها تلك المرحلة الإبطالية لكل اجتهاد إنساني وتأليف بشري وصنع حداتي يقدر به الأفراد أو الجماعات خلق حالة فنية مميزة من خلاله، وهذا لا يعني أنه لم يكن في هذه المرحلة الزمنية أي بادرة فنية على الإطلاق  لكنها لم تكن في نفس الجودة التي أصبحت عليها في الراهنية.

زليخة بو عبد الله/ الجزائر

يعتبر التحديث بنية شمولية تنطلق من الواقع وليس من المفاهيم المجردة، وهذا ما وقع فيه الكثير من أصحاب الفكر والإرشاد الإصلاحي، حيث إن المفارقة العجيبة هنا أن كل إسهام في المجال الفني أصبح يعتبر في مرحلة ما من عوائق التحديث، ويقابل بالإنكار والرفض والإضطهاد في الكثير من النمادج المحلية والتي لديها سلطة الحكم الديني، حيث أصبحت ظاهرة الفن في تلك الفترة التاريخية تأزمًا حقيقيًا، وأصبح الفن هو المرادف لجفاف العقل وتعطيل المنطق، وغلق السجية التي فطرنا عليها، وبالتالي تكون لدى لضمير الجمعي نوع من المغالطة حول ما يقدمه الأشخاص من أفكار إبداعية وحركية تنتج لغرض التشويه على المجتمع وإلهاء الجماعات على الأولويات، بعيدًا هذه الترهات والهرطقات التي تمارس، ومن هنا تجسدت أزمة الوعي وأضحت حالة لدلالة التطرف والفكر الإقصائي حول مجالات الفن.

إن الانفلات الذي عاشه الفن في محيطنا العربي والإسلامي تاريخيًا، أصبح تداعياته تجسدية واقعية، ولم يبق حبيس النظرية التاريخية، وهذا ما أكسب الأفراد وعي بسخافة هذه الوسائل والرمزيات والممارسات (الفن)، ولم يعتبر في أي فترة من الفترات ضرورة أو أولوية خلاقة في هذه المساحات الجغرافية والثقافية، وهذا يرجع بالتأكيد لنفسية الإفراد وسوداوية الضمير الجمعي في حكمهم على الفن والفنانين بإعتبارهم شواذ المجتمع.

لم تكن الخطابات الموجهة نحو الفن بالخطابات النقدية التي لديها الرؤية منطقية حول ماهية تلك الأفعال والتمثلات والتصورات الرمزية والعملية، بمعنى الطريقة الإبستمولوجية التي تحتاج لتمحيص دقيق والنظر في عمق هذه التأصيلات، بل أصبحت الأحكام القيمية هي التي تحدد نوعية هذه الظواهر الفنية، ومن ثم الحكم عليها بطرق تكريهية تعمل على معاداة الحضارة والعلم باعتبارهما قريني الفن.

كل إسهام في المجال الفني أصبح يعتبر في مرحلة ما من عوائق التحديث في المنطقة العربية

السلطة السياسية في هذه الخرائط الجغرافية ما هي إلا وجه ثان للسلطة الدينية، وهذا التناغم المرضي الاعتلالي هو السبيل الوحيد الذي تنشره هذه التركيبة الشنيعة، فنمط التفكير في هذه المحليات مأزوم الحال بتفكير جهوي تاريخاني بعيد عن الحقيقة الدامغة والوقع المعاش، وهذا ما تستطيع هذه الثنائية عمله.

تفكيك معمار الكراهية ومحاولة إعادة بناء

يحتاج العقل العربي لقوة مركزة وشديدة التركيز، تلقنه كل الأساليب التي يحتاجها لأن يكون فكرًا بعيدًا عن العشوائية الممنهجة التي هو عليها، وهنا لا بد من تظافر جهود كل مؤسسات والجهات الحكومية والمجتمعات المدنية والمشاريع الفردية في إرساء قيمة الاختلاف والإبداع وضرورته للتطور والاستمرار، فالقوقعية التي نحن فيها هي مستنقع الجهل بحد ذاته، ولا تمتل حقيقة الفرد والإنسان الذي هو المسعى والقدرة على التوعية بالأحداث وتفكيكها والتفكير حول طبيعتها.

اقرأ/ي أيضًا: نوستالجيا التسعينات.. 10 من أشهر فناني الكاسيت انحسرت عنهم أضواء الشهرة

يوجد الكثير من المشاريع الحضارية الكبرى التي أسّس لها مفكرون وفلاسفة وعلماء من مختلف المجالات في إعداد منصة صحيحة وفكرية قادرة على استيعاب كل التراكمات التاريخية الفاسدة، وإعادة استبدالها بتحركات تساهم في دفع العقل الى التفكير في الموروثات وإعادة النظر في صلاحيتها. إن الطرق التي تؤدي بنا إلى فتح النفس البشرية على الفن هو تكييفه، وإبعاد كل السوابق والمخلات التي تلتصق بها وتشوه صورته الجمالية والأخلاقية، ومن ذلك يأتي دور الصفوة في المجتمع في إحياء الضمير العقلي الفني لما لهم أهمية عظيمة في تبليغ صورة حسنة عن الفن.

قادر عيطة/ الجزائر

لما كانت الكراهية حالة طبيعية وحالة متكررة في الكثير من النمادج، فإن تبعتها أكبر منها وتعمل على نشر الكآبة والمأساوية، وللأسف هذا ما شوه الفن وقام بتعطيله في هذه المناطق، مقارنة بالحضارة الغربية التي تعتبر الفن وقودًا اجتماعيًا ومحركًا للروح فيذهب الإنسان من خلاله الى حالة اليوتوبيا ويستلذ نفسيًا ويشبع رغباته الفكرية والنفسية والبيولوجية، لذلك قدرتهم على التذوق تفوق بمراحل وأشواط استيعاب المحلي للفن بكل مجالاته، وهذا راجع للذهنية الخربة التي يقيس بها المحلي الموجودات وحتى الخبايا في بعض الأحيان.

العنف التدميري الذي يمارس ضد الفن أصله ديني محض، أدى به الى التغريب في ممارسته ولممارسيه

العنف التدميري الذي يمارس ضد الفن أصله ديني محض، أدى به الى التغريب في ممارسته ولممارسيه، وكي لا أحمل الدين المسؤولية في ذلك بل صناع الفكر الديني، الذين انساق بعض الجهلة وراءهم يصدقون تخاريفهم بالتشويه المتعمد لصرح الفن الجميل، الباعث على استعادة العقل والنشاط الروحي، الذي خانه أصحاب هذا الفكر الضلالي المميت.

اقرأ/ي أيضًا: غويا في اللوحات السوداء

نحن إذًا بصدد نشر خطاب يدعو الى تحرير العقل من كل الخزعبلات السمجة، التي تجعل منه عقلًا مركونًا في زاوية الجماد إلى مزبلة التاريخ بعد ذلك، والتي لا نريد أن نقع فيها؛ نسعى الى الإصلاح بقوة بشرية وإرادة خالية من أي أفكار مسبقة أو معطيات جاهزة، فالفن هو تلك البذرة التي نحتاجها للتجديد، فهو القدرة الحقة على استكمال المسيرة الحياتية الإنسانية، وهو الشيء الوحيد الذي يجمع الإنسان بإختلاف طبائعه وعقائده، فكل ما نحتاجه هو الفن وليس غير الفن.

 

اقرأ/ي أيضًا:

كاريكاتير من زمن الاستعمار

التونسية منى الجمل.. الهامشيّ بعدسة فينوس