09-سبتمبر-2016

في الحقيقة، لم أكن أرغبُ بدايةً في أن أستخدم حرف النون في (نكتُب) عوضاً عن الألف، إذ طالما أخذني ذلك إلى مواضع لا أحبّذها، وطالما أيضاً حتّم عليَّ الآخَر، الطريقة التي يجب أن أداعبَ عقلهُ بها… يا فلان، إني أحبك، فلا تفعل كذا.. أو افعَل؛ حسنًا، دعُونا من ذلك الآن.

قد يتبادر إلى ذهن البعض (الآخَر يحتّم علينا أيضاً العمل بمقتضى ما نعتقد من طريقة تفكيره)، قد يتبادر إلى ذهنهم أن كتابة هكذا مقال، هو ضربٌ من ضروب المواساة الذاتية؛ لكن والحق يقال، إن في الجملة المنسوبة لأبي العلاء المعري، التي يقول فيها "كلما قرأتُ كتاباً رَدّني عقلي إلى جهلي"، إسكاتا موضوعيًا لكل الأصوات الباحثة عن الحقيقة والمعبِّرة عنها بمقابل مادي في هذا العالم.

إن الأخر على الرغم من كونهِ "جحيماً"، يحتّم علينا أشياء لا نوليها اهتمامًا، ويحد من حرّيتنا حتى في طريقة تناول الطعام، إلا أن وجوده ضروري ومصيري بالنسبة لنا

تسعة أشهر عِشتها إلى جانب عشرات الفارّين من تنظيم الدولة الإسلامية، ونظام بشار الأسد، في منزل من طابقين وسط مدينة "أورفا" التركية، كانت كافية بالنسبة لي، لإتمام قراءة 167كتاباً إلكترونيًا، ومتابعة مثلها من أفلام السينما؛ جعلَ ذلك كلُّهُ منّي إنسانًا مهزوزًا وكسولاً وجبانًا وخائفًا في الوقت ذاته؛ بتُّ أعاني الرهاب، وصِرتُ أتحاشى حتّى حاويات القمامة، وعجلات السيارات المتشبّثةِ حدَّ اللعنة بالأرض من تحتها.. إنني أكتبُ بالمجّان، لأنني قرأتُ وشاهدتُ وخِفت وأحببتُ بالمجّان؛ والعكسُ ليسَ صحيحًا.

اقرأ/ي أيضًا: أكذوبة إحصائيات القراءة

قد يتبادر إلى ذهن (قارئ) هنا، أننا إذ نكتب بمقابل مادّي، فإننا نتفضّل على هذا العالم بما بنينا فيه أنفسنا، وأن المنابر مُطالَبة بحال من الأحوال أن تدفع "قيمة" ما أرهقنا به أدمغتنا، وأصبنا على إثره بالصلع، وارتدينا النظّارة، وأطلنا شعر الذقن والشارب، واكتسحَ رؤوسَنَا الشيبُ، وأسرفنا لأجله الوقت؛ في حين يَغفَل عن إدراك أنه مُطالَب منذ البدء، بتحديد ماهيّته، ورَسمِ ملامح وجهه قبل التعبير عما في رأسه بمقابل أو دون. لستُ أكتبُ بالمجّان لأنني بروليتاري أحمق، وإنما لأنني أخجل مما أنا عليه أمام "سارتر" مثلاً، في الوقت الذي لا أقيم فيه وزناً لـ "البشرية" بالكَم.

وقد يتساءل (قارئ) آخر، عن الطريقة التي لا نقيم فيها وزنًا للبشرية بالكَم، ونكتب في الآن ذاته بالمجان، ألأجلِ أن يقرأنا الماهَوِيُّون فقط؟ نقول: إن الأخر على الرغم من كونهِ "جحيماً"، يحتّم علينا أشياء لا نوليها اهتمامًا، ويحد من حرّيتنا حتى في طريقة تناول الطعام، إلا أن وجوده ضروري ومصيري بالنسبة لنا؛ أيُعقل أن يكون ثمةَ ما يُسمى "نور" دونما "ظُلمة"؟، إذًا نحنُ نكتبُ بالمجّان لأننا نريد أن يقرأنا الآخر، ونحترمُ ما يمنحنا إياه من الوقت، مثلما نفعلُ في "الفيس بوك" تمامًا حينما نجد أنفسنا حقيقيين ومتجذّرين في شخصيّتنا، أيَطلبُ المرءُ مقابلًا مادّيًا كي يبدو حقيقيًا؟

وأخيرًا لقد استبدلوا كلمة "بيع" القرآن، بـ "استيهاب"، ثم قالوا: "استكتاب"، استكتَبَهُ فلان، أي حرّضهُ على الكتابة بمقابل مادّي. لكن وبالمنطق ذاته، ماذا لو اكتفيتُ في تحريضي على الكتابة بـ"الغثيان" ممن هم حولي، أو سماع مقطوعة موسيقية لـ "كايان كالهور" مثلاً، أيستوجب ذلك أن أدفع لهم المالَ جميعًا؟ يا للعجز الجنسي.

اقرأ/ي أيضًا:
عن دور النشر وكتبها المترجمة
القارئ في اللانهاية