30-أكتوبر-2015

أحد أعضاء حزب النور يرفع صورة عبدالفتاح السيسي في أحد مؤتمرات الحزب (Getty)

عندما تصطدم الأنظمة مع تيارات أيديولوجية كبيرة، يمكن لأحد أجنحة التيار أن تنعزل عن هذا الصراع لحماية مستقبله، لكن أيضًا دون أن تنحني للسلطة بالشكل الذي يفقدها القدرة على استمرار التعبئة الأيديولوجية، بعد فقدان مصداقيتها. مراوغة صعبة جدًا، وتكون مشروطة من البداية، بألا يظهر انعزالها هذا عن الصراع، كمحض تكتيك سياسي انتهازي، بجب أن يظهر بالأساس كخيار فكري أصيل، ولذلك كانت تلك المهمة، مهمة حماية مستقبل التيار، تؤول دومًا لأكثر أجنحة التيار إصلاحية، وأقرب تياراته في تصوراتها الفكرية لتصورات النظام نفسه، دون أن تكون متماهية معها تمامًا.

منذ مشاركته في الإطاحة بمحمد مرسي، قرر حزب النور،على الأقل بشكل خطابي، أن يأخذ على عاتقه هذه المهمة، مهمة حماية أطياف من تيار الإسلام السياسي من عواقب الصدام بين الدولة والإخوان. كانت تلك مهمة شبه مستحيلة. لكن، وعلى أي حال، لم يكن حزب النور الوحيد الذي تصدر لهذه المهمة، من قبل.

"سفينة نوح" التيار الإسلامي

نفس هذه المهمة أخذها الإخوان على عاتقهم في عقدي الثمانينات والتسعينات. كانت الجماعات الجهادية -الجماعة الإسلامية وتنظيم الجهاد بشكل أساسي- في أوج قوتها وانتشارها الشعبي وكانت الدولة مصممة على التخلص منهم بأي ثمن، انعزل الإخوان عن ذلك الصراع بشكل كلي.

حاولوا في ظل حرب الدولة والجهاديين، أن ينحوا غالبية التيار الإسلامي من هذه المعركة، وأن يكتسبوا مساحات أوسع للحركة والتأثير، بأقل الخسائر الممكنة، وكانت استراتيجيهم اللاواعية في هذه المهمة، أن يقوموا بعكس كل ما ترسخ في الأذهان عن طبيعة الإسلاميين، أو، بشكل أكثر تحديدًا، عن طبيعة الجماعة الإسلامية.

يمكن القول أنه بقدر نجاح الدولة في القضاء على الجماعة الإسلامية، كان الإخوان وبقية الإسلاميين يكتسبون مواقع جديدة، ويعززون سيطرتهم الأيدلوجية على المجتمع

الجماعة الإسلامية، لم تكن حركة طبقة وسطى تهدف للإصلاح، بل حركة إسلامية شابة، كان قد تم اعتقال أغلب قادتها قبل أن ينهوا المرحلة الجامعية، وينتمي أغلب أعضائها للشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى، وكمجموع يغلب عليهم الانتحارية والتشدد والميل للصدام مع الجميع مع تحصيل فكري ومعرفي ضحل. ولعل صورة أعضاء الجماعة الإسلامية تحديدًا، هي ما كونت في فترة ما، الصورة الذهنية للإسلامي - خصوصًا في الأفلام شبه الدعائية التي رعتها الدولة المباركية- كشخص فقير وجاهل وساخط على الجميع.

في محاولة الإخوان للابتعاد عن ما مثلته الجماعة الإسلامية، قدموا أنفسهم للمجتمع وللسلطة، كحركة إصلاحية من المتعلمين أبناء الطبقة الوسطى، غير الراغبين في الصدام، وباستعداد للتفاوض مع النظام والمجتمع في ما يمكن تغييره، بل وباستعداد للمشاركة في المساحات المحدودة التي يرسمها النظام للمعارضة. لذلك كان طبيعيًا أن يشارك الإخوان في أغلب الانتخابات التي نظمتها الدولة، بداية من انتخابات مجلس الشعب، وانتهاءً بانتخابات نوادي أعضاء هيئات التدريس في الجامعة، مرورا بالانتخابات الأهم، وهي الانتخابات داخل النقابات المهنية، والتي كانت مدخلهم الأساس لاختراق المجال العام، وللتحدث مع أعضاء الطبقة المتوسطة.

كان الإخوان يفعلون كل ذلك، فيما كانت الدولة تخوض حرب تكسير عظام مع الجماعة الإسلامية، اعتقالات للآلاف من أعضائها، واستهداف مباشر لمن يُظن بهم أنهم في الطريق للانضمام للجماعة. ولم يكن غريبًا أن يعتقل من يطلق لحيته كعضو محتمل في الجماعة. لكن كل ذلك كان يجري على هامش عالم آخر، عالم تحدث فيه صراعات وتجاذبات سياسية بين الإخوان والحزب الوطني، ولا يشكل مأزق الجماعة الإسلامية، في هذا العالم، محددًا رئيسيًا في التفكير.

بشكل كبير يمكن القول إن الإخوان نجحوا في مهمتهم تلك، بل ويمكن أيضًا القول إنه بقدر نجاح الدولة في القضاء على الجماعة الإسلامية، كان الإخوان -ومن ورائهم بقية الإسلاميين- يكتسبون مواقع جديدة، ويعززون سيطرتهم الأيديولوجية، على المجتمع رويدًا رويدًا، وفي الوقت الذي نجحت فيه الدولة بشكل تام في القضاء على الجماعة الإسلامية، كان الإخوان قد أصبحوا الفصيل المعارض الأكبر والأكثر شعبية والقادر على المنافسة بقوة في أي انتخابات ضد مرشحي الحزب الوطني، وكان الإسلام السياسي قد أصبح مهيمنًا للدرجة التي أصبحت مقولاته -التي حولها الإخوان لمقولات غامضة جدًا- بعيدة عن النقد الجاد حتى من قبل أعتى خصومه، وتم التسليم بها كحقيقة أزلية أو كأحد طبائع الاجتماع الديني في مصر.

اقرأ\ي أيضًا: وجهان لسلطة واحدة 

أقل من انفصال فكري، أكثر من مجرد خطة خداع

لكن نجاح الإخوان في ذلك، لم يكن محض صدفة، أو نتيجة لخطة خداع محضة قاموا بها. كانت الجماعة في تأسيسها الثاني في السبعينات، مكونة في غالبيتها من طلاب كانوا ضمن "الجماعة الإسلامية" في الجامعات، الجماعة التي احتوت كل أطياف الإسلاميين المستقبلية، بداية من الإخوان ومرورًا بالجماعة الإسلامية وتنظيم الجهاد وليس انتهاءً بالدعوة السلفية، قبل أن تأخذ كل مجموعة خطها الفكري والسياسي الخاص بها.

كان الإخوان والجماعة الإسلامية، قريبين في لحظة معينة، لكن المجموعة الطلابية التي انضمت للإخوان، كانوا ينضمون لتنظيم كانت قياداته قد خرجت منذ فترة قصيرة، من السجون، التي قضوا فيها سنين طويلة، فترة حكم جمال عبدالناصر، ولذلك لم يكونوا على استعداد للصدام مرة أخرى مع النظام.

كان طرح الإخوان الأيديولوجي، طرحًا مشوشًا وضبابيًا، وهو ما مثل ميزة لهم ماداموا خارج السلطة

انحاز الإخوان لطبيعة الطبقة الوسطى، الراغبة في الاستقرار والتفاوض وليس الحلول الراديكالية. وكان هذا ما يميزهم فعلًا عن الجماعة الإسلامية والجهاديين. كانت تصوراتهم -كمتعلمين من أبناء الطبقة الوسطى- بالفعل أقرب للدولة المصرية، المحافظة أساسًا، من تصورات الجهاديين. ولذلك لم يكن استعداد الإخوان للدخول في الحياة السياسية المصممة أمنيًا، مجرد انتهازية محضة، كان ذلك موقعهم الاجتماعي والطبقي الذي ينطلقون منه، ولم يكونوا بالفعل راغبين في أي صدام جدي مع السلطة ولم يكونوا كجماعة أو كأفراد، يكفرون أيًا من المجتمع أو السلطة، ولذا لم يكونوا متحمسين تمامًا لخوض معارك وجودية معه، فضلًا عن أنهم كمهنيين منتمين للطبقة الوسطى، كانوا قد تشربوا مفهومها عن الإنجاز الحياتي، ولذلك اعتمدوا في جذب الناس إليهم، على الظهور أمامه بمظهر المتعلمين الناجحين مهنيًا، الشرفاء، الاجتماعيين الودودين، الخدومين، لكن أيضًا الملتزمين دينيًا، وكان هذا الخليط من النجاح المهني والتدين والعمل الخيري هو رأسمالهم الرمزي في المجتمع، الذي ينافسون به السلطة.

هذا على المستوى الحركي، أما على المستوى الفكري، كان الإخوان قادرين على تطوير خطابات تبتعد تدريجيًا عن خطابات الجهاديين، وكانوا قادرين على تقديم تنازلات خطابية بخصوص الديموقراطية وحرية المرأة وحقوق الإنسان والشريعة والأقباط والعلمانيين، ودخلوا في تحالفات مختلفة وفي مواقع مختلفة مع شخصيات وتيارات غير إسلامية، ما سهل اعتبارهم جزءًا من حركة المعارضة، وأحد أطرافها الرئيسيين.

بجوار ذلك كله، كان طرح الإخوان الأيديولوجي، طرحا مشوشًا وضبابيًا، وهو ما مثل ميزة لهم ماداموا خارج السلطة، إذ كانوا قادرين على احتواء تيارات فكرية مختلفة ومشتتة داخل التنظيم، وبالتالي مضاعفة قدرتهم التجنيدية، وساعدهم ذلك في الظهور لفترة طويلة من الزمن كحاضنة عامة لعموم الحركة الإسلامية بكل تنوعاتها. بل ويمكن القول إن هذا التشوش نفسه، شارك بشكل فاعل في صياغة أفق التغيير في السنوات الأخيرة لمبارك.

النجاح المربك

الأفق الفكري العام لحركة المعارضة ضد مبارك، كان جزءًا أساسيًا منه، قدرة الإخوان على احتواء أغلب الاسلاميين من جانب، ومن جانب آخر قدرتهم على التفاوض مع القوى الأخرى، وتبنيهم لشعارات المعارضة المرفوعة، وكان ذلك مطمئنًا للكثيرين، فالإسلاميون، الذي ظلوا لفترة شبحًا مخيفًا بسبب جذرية وعنف الجهاديين، يمكن التواصل معهم ويمكن دمجهم -دون مخاوف كثيرة- في مشروع ديموقراطي عام، يعمل الجميع لتحقيقه.

انشغل الإخوان بشكل كامل في محاولاتهم للاستفادة من مساحات المعارضة التي أتاحها النظام، وكوّنوا مع الوقت خطابًا ضبابيًا، يرفع شعارات الديموقراطية، مع تخفيف النَفَس الإسلامي، للدرجة التي جعلت أفكارهم بخصوص ماهية الإسلام الذي يريدون تطبيقه، أفكارًا مشوشة وغير واضحة، وتم تأجيل التفكير فيها، لحين الوصول للحكم، لأنهم رأوا أن التفكير فيها قبل ذلك، سيعطي فرصة للآخرين للنيل منهم. لكن هذا التأجيل، الذي حصدوا ثماره، ممثلة في قدرة على اختراق المجال العام والتحالف مع آخرين وإمكانيات توسع كبيرة، سيأتي وقت آخر، تنالهم فيه أشواكه.

ما بعد الثورة، الهبوط إلى الأرض

شوّش الإخوان أفكارهم وقت مبارك للنجاة بالتنظيم وتوسعته، لكن حينما ذهب مبارك، كانوا قد أصبحوا مشوشين فعلًا، ولم ينجدهم في حيرتهم تلك سوى السلفيين

بمجرد نجاح انتفاضة يناير في إزاحة مبارك من رأس السلطة، رأى الإخوان بشكل لاواعي أن مهمة "سفينة نوح" قد انتهت، وأن عصرًا جديدًا، العصر الذين يهبطون فيه من السفينة، قد بدأ. انتهت مهمة حماية التيار، وحان وقت تطبيق الأفكار كما هي. لكن شيئًا قد تغير داخل الإخوان، أيام السفينة، لم يعد للإخوان أي أفكار أصلًا، يريدون تطبيقها، كان يعرفون أنهم "إسلاميون"، لكن دون أن يعني ذلك دلالات محددة.

شوّش الإخوان أفكارهم وقت مبارك، للنجاة بالتنظيم وتوسعته، لكن حينما ذهب مبارك، كانوا قد أصبحوا مشوشين فعلًا، ولم ينجدهم في حيرتهم تلك، سوى السلفيين، ولذلك اعتمد الإخوان في مزايداتهم على العلمانيين، كما في معارك كتابة الدستور، على ما يمدهم به السلفيون من أفكار.

وكان تحول الإخوان بعد الثورة، وانحيازها لصالح القوى الأكثر يمينية منها، هو أصعب سؤال واجه الجميع، كان الجميع قد وطدوا أنفسهم على عالم يكون فيه الإخوان هم جسر التواصل مع الإسلاميين، والوصول لحلول وسط معهم، نيابة عن التيار. وبتحول الإخوان. لم يبق هناك من أحد للقيام بهذه المهمة، وضاعف ذلك من حدة الاستقطاب الإسلامي/العلماني، بعد الثورة. ثم أفضى إلى صراع وجود فيما بعد وصول الإخوان للسلطة، كانت المهمة التي حملها الإخوان تاريخيًا، وهي مهمة التقارب مع الآخرين وتحجيم الصراع، ملقاة على الأرض، تبحث عمن يحملها، لكن لم يفرز التيار الإسلامي من يقوم بذلك. كان الإحساس بامتلاك المجال العام مثيرًا لنزعات التجذير الخطابي، ولم يشعر أحد بالحاجة إلى صناعة سفينة، لأن الطوفان قد انتهت أيامه للأبد.

بوصول مرسي للسلطة، وتصاعد الصراع بين الإخوان ومعارضتهم، وتحديدًا في الشهور الأخيرة له، وشعور الجميع بانخفاض شعبية الإخوان، بدأت أطراف من الإسلاميين، تحدس بأن أحدًا ما يبنغي أن يقوم بمهمة الإخوان القديمة، قبل أن يغرق الطوفان الجميع.

الشعور الذي دفع حزب النور، في الشهور الأخيرة قبل عزل مرسي، أن يقوم هو بتلك المحاولة، حيث عرض على كل من الإخوان وجبهة الإنقاذ، الجلوس للتفاوض. لكن الجميع كان مصرًا على المضي في الصدام، كما أن مواقف حزب النور نفسها خلال فترة بعد الثورة، والتي اعتمدت على المزايدة دينيًا على الإخوان المسلمين، وعلى الحشد الطائفي، أفقدته مصداقيته في محاولته ليكون الصوت العاقل الراغب في الحوار داخل الإسلاميين. لكن تلك المحاولة بخيباتها وتناقضاتها، كانت تنتظر حزب النور في المستقبل أيضًا.

مقامرة بمقاسات حزب النور

مثل الإخوان والجماعة الإسلامية، تعود جذور الدعوة السلفية، إلى الحركة الطلابية في السبعينات. لكنها أخذت خطًا مختلفًا عن كل منهما، جماعة سلفية تقليدية، بدون طموح سياسي، مبتعدة تمامًا عن المجال السياسي، وترفض كل أفكار الإخوان المتعلقة بالوصول للحكم عن طريق الديموقراطية والانتخابات، وتتبنى آراء فقهية متشددة، وتُفضل ألا تصطدم بالسلطة على الإطلاق ولأي سبب.

 تعرف السلطة أنه في لعبة انتخابية، مصممة لعزل الإخوان، يمكن لانتصار كبير لحزب إسلامي، أن يربك كل شيء

اكتسبت الدعوة السلفية، زخمًا في فترة الصعود السلفي الكبير في سنوات حكم مبارك الأخيرة، لكنها اتخذت قرارًا بعدم المشاركة في مظاهرات الخامس والعشرين من يناير. ثم بعد تنحي مبارك سرعان ما قررت إنشاء حزب سياسي كذراع لها. كانت الدعوة السلفية ورموزها، أحد نقاط الاشتباك المهمة بين العلمانيين والإسلاميين، كانت الدعوة والحزب التابع لها، تتخذ مسار المزايدة على الإخوان دينيًا، وساعدها في ذلك هشاشة الإخوان الفكرية، ما جعلهم يُسلمون بكل الانتقادات السلفية لهم، ويميلون للسلفيين تدريجيًا. بالوقت كان قد تكون معسكر إسلامي واحد يعادي بقية التيارات، في القلب منه جماعة الإخوان المسلمين، ويتخذ بقية السلفيين مثل حزب النور وحازمون، موقع المزايد عليهم ويدفعونهم يمينًا أكثر، قبل أن ينفض المولد كله.

في فترة الانخفاض الحاد في شعبية الإخوان، في الشهور الأخيرة من حكم مرسي، بدأ النور في اتخاذ مسافة واضحة من الإخوان وسياستهم في الحكم، وحاول النور-كما تقدم- أن يكون وسيطًا بين الإخوان وجبهة الإنقاذ، ولم يوقف في ذلك لأن الأمور كانت قد انفلتت بشكل نهائي.

لم يشارك حزب النور في مظاهرات الثلاثين من يونيو، لكنه اشترك في بيان السيسي الذي أعلن فيه عزل مرسي. كان الحزب قد رأى محقًا أن عاصفة الرفض الجماهيري للإسلاميين ستسحق من لا ينحني لها، لذلك قرر أن يشارك في سياسة ما بعد الانقلاب، أملًا في تقليل الخسائر، وفي حجز مكان في طاولة ترتيب أمور ما بعد الإخوان. شارك في لجنة تعديل الدستور -بدون تأثير يذكر- ودعا للموافقة عليه وشارك في الانتخابات الرئاسية داعمًا للسيسي ثم أخيرًا شارك في الانتخابات البرلمانية، لكنه في كل ذلك لم يحصد أي نجاحات مؤثرة.

هناك في الأغلب اختلاف كبير في تصور دور حزب النور في مرحلة ما بعد مرسي، بين كل من الأمن والحزب نفسه، فبينما يظن الحزب أنه بمشاركته تلك، يحق له أن يشارك في المكاسب، يرى الأمن أنه بمشاركته يمكن له أن يحمي رقبته لا أكثر من ذلك، وإن كان ذلك لا ينفي أن وجود النور يظل مربكًا بشكل حقيقي لسلطة تحارب الإسلام السياسي ممثلًا في فصائل أكثر اعتدالًا من النور، ثم تجد نفسها في النهاية، تسمح لحزب أكثر تشددًا منهم، بالدخول في الحياة السياسية التي صممتها لإبعاد من هم أكثر قدرة على الاندماج معها منه. هذا الارتباك الذي يمكن رؤيته بسهولة في فرحة السلطة وأنصارها المقربين بسبب نتائج النور الهزيلة في المرحلة الأولى من الانتخابات البرلمانية. تعرف السلطة أنه في لعبة انتخابية، مصممة لعزل الإخوان، يمكن لانتصار كبير لحزب إسلامي، أن يربك كل شيء.

لكن الأمن ليس وحده من ينفر من مشاركة النور، تنفر أيضًا بقية القوى السياسية العلمانية من ذلك، وتبدو المراوغة القديمة التي استطاع الإخوان فعلها في وقت مبارك، صعبة جدًا على حزب مثل النور.

حتى بافتراض قدرة النور على تحقيق نجاحات انتخابية مفترقة هنا أو هناك، لن يتمكن، كما فعل الإخوان قديمًا، في جعل انتصاراته هذه، تمثيلًا لأهداف أكبر من مجرد انتصار لحزب محدد. جعل الإخوان انتصاراتهم، وقت مبارك وبعد الثورة، على الأقل في نظر جماهيرهم، تمثيلًا لانتصار الديموقراطية والإسلاميين معًا، لن يفعل النور ذلك.

لا يتيح الموقع الخطابي لحزب لنور داخل الإسلاميين، أن يكون قادرًا على تقديم أيًا مما كان الإخوان قادرين على تقديمه وقت مبارك. يأتي حزب النور -والدعوة السلفية- من طرح فكري يقع على أقصى يمين فكر الإخوان. طرح يرى ابتداءً أن الديموقراطية هي أحد أنماط تحكيم الشعب بدلا من الله، وأن لا دخل للمرأة بالعمل العام، وبأفكار تعادي كامل الليبراليين واليساريين في كل الأوقات، وتراهم العدو الأهم والأخطر، كما تعتمد آليته الانتخابية الحشدية منذ تنحي مبارك، على الحشد الطائفي ضد المسيحيين، كأهم عامل لإثارة حماسة أنصاره، كيف يمكن إذن لحزب هو كل ذلك، أن يكون قادرًا على الظهور بمظهر المعتدل، قياسًا بالإخوان المسلمين؟!

في الواقع هو لا يريد ذلك تمامًا، أي لا يريد الظهور بمظهر المعتدل الفكري، بل بمظهر المعتدل السياسي. يريد النور أن يقايض اصطفافه لجوار السلطة، بمساحة من حرية الحركة والتأثير، دون أن يقدم تنازلات فكرية، هو يعلم أنه بمجرد اتخاذها سيخسر مؤيديه، كما سيخسر مميزاته الفكرية عن الإخوان. كان الإخوان قادرين على تطوير أفكار برجماتية بخصوص الديموقراطية والمرأة والأقباط والتحالف مع العلمانيين، لأنهم كانوا يقومون بذلك بالأصالة عن أنفسهم، وللمرة الأولى، مما يجعل من السهولة إقناع أنفسهم والمجتمع والسلطة، بأنها أفكارهم الأصيلة فعلًا، وهي كذلك إلى درجة معينة. في المقابل، يصعب على حزب النور، بمنهجه السلفي، أن يكون قادرًا على تطوير أي منظومة فكرية تستطيع التعامل بأريحية مع السلطة، وبدون أن يكون ذلك، في نظر السلطة والمجتمع والسلفيين، مجرد انتهازية محضة أو تقية سياسية.

إذن، من ضمن كل الساحة السياسية، لا يستطيع النور، التحرك سياسيًا، إلا مع السلطة التي ينافقها، لكنها السلطة الحذرة من كامل الإسلام السياسي، والتي لا ترى في النور، ما كانت تراه في الإخوان قديمًا، أي القدرة على تحييد أغلب جمهور الإسلاميين من تجذير الصراع معها، كما لا يرى العلمانيون فيهم ما كانوا يرونه في الإخوان، القدرة على الدخول في تحالفات مشتركة، بأفق سياسي ديموقراطي.

لا يبقى إذن للنور سوى جماهيره السلفية حصرًا، التي تراه مدافعًا عن مساحاتها في الحركة، ومسئولًا عن إبعاد اليد الثقيلة للسلطة، عنها.

يلعب حزب النور، إذن، لعبة خطرة جدًا. حزب يعلن معاداة الإخوان المسلمين ومؤيديهم من الإسلاميين، ويصمت على قمع الدولة لهم، في الوقت نفسه يريد أن يخوض حربًا مقدسة ضد كل العلمانيين بما فيهم معارضي السلطة، ويعتمد حصرًا في دعايته الانتخابية على التجييش الطائفي ضد المسيحيين، ثم يرجو أن تسمح له السلطة بكل ذلك، فقط لأنه سيعلن تأييده المشروط لرئيسها. حزب بلا أصدقاء ويعادي الجميع، ويتقرب فقط من سلطة تخوض حربًا وجودية ضد الإسلام السياسي، هو حزب يعرض نفسه لضربات الجميع، دون أن يتعاطف معه أحد.

اقرأ\ي أيضًا: حزب النور..الأبيض يليق بكم