13-ديسمبر-2015

الرئيس المصري الأسبق محمد مرسي أثناء إحدى جلسات محاكماته (Getty)

عندما تكون الفكرة واضحة، يمكن لها أن تقوم بالمناورات، وأن تمتلك حيزًا للمواءمات السياسية، لكن عندما تكون الفكرة أسيرة ضبابية شديدة، لا يبقى سوى التمسك بالشكليات، كآخر شيء باقٍ من لحظات الوضوح.

يمكن القول إن فترة ما بعد تنحي مبارك، كانت تأسيسًا ثالثًا لجماعة الإخوان، إذ أفرغت الجماعة نفسها من الكتل القريبة من العلمانيين 

منذ مظاهرات الثلاثين من يونيو ثم الإطاحة بمرسي بعدها، لم يظهر عموم الإخوان أي استعداد للتنازل عن مرسي كرئيس، رغم أنهم، في غير ذلك، بدوا مستعدين للتفاوض أو للمرونة، حتى وإن كانت تلك المرونة عديمة الجدوى تمامًا، لأن الغضب كان منصبًا على وجود رئيس إخواني، وليس أي شيء آخر. لم تكن المرونة من جانب الإخوان، في مسائل تتعلق بنمط السلطة وسياساتها، ثم تصلبهم في شخص مرسي، مسألة تتعلق فقط بالحفاظ على الشكليات الديمقراطية. كما يبدو غريبًا أن تصر جماعة، تتعرض لتنكيل ربما لم يسبق له مثيل في تاريخها وربما في تاريخ الحركات السياسية العربية، على مطلب واحد سياسي واحد، كأنه كل شيء، وتتخلى عن كامل تراثها السياسي، المليء بالتنازلات الخطابية والحلول الوسطية.

في رأيي، لا يرتبط ذلك التشدد بخصوص مطلب هو في النهاية، من وجهة النظر السياسية، مجرد مطلب تكتيكي، بالتحليل البسيط لذلك التشدد، بكونه إصرارًا على عدم الاعتراف بالأخطاء التي ارتكبتها قيادتهم، أو رفضًا للخضوع لإرادة "العسكر"، هناك ما هو أبعد ذلك.

تشوش أيديولوجي

في عالم ما قبل الثورات، كانت الجماعة تتبنى خيار تأجيل التفكير في الشريعة، إلى مرحلة التمكين، وكانت إجابة الإخوان المعتادة عند سؤالهم عن أي شيء يتعلق بالعقوبات الجنائية في الإسلام، الجزء الوحيد غير المطبق من الشريعة -مثل الحدود أو الحسبة أو حد الردة-، هو مراوغة السؤال بالقول إن كل شيء سيتم بالتدرج، دون أن يعني هذا التدرج شيئًا محددًا، سوى رؤية الجماعة أن الشريعة في شقها الجنائي ليست بتلك الأهمية التي يتحدث عنها الناس.

ظن الإخوان أن ذلك شيء سيكون واضحًا بمجرد الوصول للسلطة، سيعرفون حينها كيف يطبقون الشريعة وماهو مشروعهم السياسي، أما قبل تلك المرحلة، فقد قرروا أنه لا يهم كثيرًا أن يكون لديهم نموذجًا أوليًا للسلطة التي يريدون، ماداموا مازالوا بعيدين تمامًا عنها، ولا للحل الذي يمثله الإسلام تحديدًا، مادام أنه لن يطلب منهم أن ينفذوه غدًا صباحًا.

بانزياح عنف الدولة، الذي دفعهم لتأجيل التفكير في ماهية هذا "الحل الإسلامي"، اكتشف الإخوان فراغًا كبيرًا في تصوراتهم، الفراغ الذي اقتربوا من السلفيين ليملؤوه لهم بأفكار واضحة عن الشريعة، لكن حتى تلك الأفكار الواضحة، استجاب لها الإخوان وقتها، كحل تكتيكي في مواجهة خصومهم العلمانيين دون أن يعتبروها غاية المراد التي يجب النضال من أجلها. يرى الكثير من معارضي الإخوان أن مقولات الجماعة عن الشريعة والتدريج والديمقراطية، هي مقولات برجماتية للتغطية على غرض حقيقي، لكن ما أميل إليه، هو أن تشوش الجماعة حقيقي، وأنه خلف كل تلك الستارات لا يوجد غرض محدد، سوى المقولات الغامضة نفسها.

التأسيس الثالث

يمكن القول أن فترة ما بعد تنحي مبارك، كانت تأسيسًا ثالثًا للجماعة -إذ عادة ما يشار لانضمام الكثير من طلاب الجماعة الإسلامية في السبعينيات للإخوان بالتأسيس الثاني-، أفرغت الجماعة نفسها بسرعة من الكتل القريبة من العلمانيين أو من الحركات الثورية الشبابية، وكانت الاختيارات المتتالية للجماعة، تدعم هذا الاتجاه. ألفت الجماعة في لحظات توسعها الكبير، أواخر العهد المباركي، وجود أجنحة متنوعة بداخلها، وساهم ذلك التنوع في قدرة الجماعة على التغلغل في شرائح وأمزجة مختلفة، لكن عهد ما بعد مبارك، كان يتطلب أن تحسم الجماعة اتجاهها لصالح أحد الأجنحة داخلها، وكان الخيار الأكثر منطقية أن تتجه للجناح الأكثر يمينية، لكونه قادرًا على إنتاج خطاب يحفظ للجماعة وجودها، الجناح الذي ينجح في فصل نفسه عن الليبراليين ليحتفظ بهوية إسلامية لنفسه، وهو ما فعلته، أما الخيارات الأخرى، صحيح أنها كانت لتجعل الأمور أكثر سلاسة، لكنها أيضًا، كانت تعني خفض النفس الإسلامي للجماعة، ومعه انخفاض قدرتها على التماسك التنظيمي، ثم انهيارها.

يحتاج الإخوان، لشكل انتصار ملحمي، يبرر كل هذا القمع الإجرامي الذي يتعرضون له، كما يرسم أفقًا لنهاية سعيدة

ساهمت السيطرة التامة للجناح الأكثر محافظة -بقيادة خيرت الشاطر- على الجماعة، معطوفة على انفتاح المناخ العام والاستقطاب السريع بين الجماعة والعلمانيين، على إعادة تأسيس للنفسية الإخوانية مرة أخرى، فبعد أن ظل الإخوان، لسنوات طويلة، ينظرون للآخرين، كحلفاء في الصراع، أصبح هؤلاء الآخرين، أعداءً أصليين، وخلال الاستقطاب المتصاعد، كان ينشق من الجماعة، كل حين، من لا يتكيف مع هذا التأسيس الجديد. وكانت الخطوة الفيصل في هذا التأسيس، هو دفع الجماعة لخيرت الشاطر ثم لمحمد مرسي لخوض انتخابات الرئاسة، في حملة رئاسية اعتمدت بشكل أساسي على وعود تطبيق الشريعة.

بعد فوز مرسي، تضاعفت حدة الاستقطاب، واستمرت الانشقاقات المتتالية عن الجماعة، ومعها تراجعت قدرتها في احتواء أمزجة مختلفة. ويمكن النظر إلى استقالة جل الهيئة الاستشارية التي عينها مرسي لنفسه، بمجرد فوزه بالرئاسة، كدليل على انحسار القدرة الإقناعية للجماعة لأي أحد خارج فقاعتها الخاصة، بما فيهم هؤلاء الذين أبدوا استعدادًا مبدئيًا لخوض غمار المغامرة معهم.

كما يمكن اعتبار الكتلة التي صمدت مع الجماعة حتى الثلاثين من يونيو، الكتلة التي لم تفكر في الانشقاق رغم كل شيء، هي الكتلة الإخوانية الصلبة، والتي يمثل لها انتماؤها للجماعة، جزءًا من الهوية، لا يمكنها التنازل عنه. هؤلاء تحديدًا يعتبرون مظاهرات الثلاثين من يونيو، كانت ضدهم بشكل شخصي.

30 يونيو

استمتع الإسلاميون بعقود طويلة من الهيمنة الثقافية والاجتماعية، جعلتهم متيقنين من كونهم التعبير الحقيقي عن ميول الجماهير، وما عداهم مجموعات صغيرة من العلمانيين الذين فتنهم الغرب عن دينهم. انكسر ذلك بعد الثورة، بصعود تيارات شبابية ذات مزاج علماني واضح، وقادرة على إقناع شرائح واسعة من الطبقة الوسطى بأفكارها، وسرعان ما دخلت هذه التيارات في صراعات خطابية وميدانية مع الإسلاميين، جذرت موقف الطرفين من بعضهما البعض، كما باعد التحالف الإخواني مع السلفيين، وأداء الإخوان في الحكم، شرائح واسعة من الطبقة الوسطى عن الجماعة.

بخروج مظاهرات 30 يونيو، كانت الجماعة ومعها الإسلام السياسي ككل، تواجه شيئًا لم تفكر فيه أبدًا، وهو أن تخرج حشود جماهيرية ضخمة تطالب بصراحة بالإطاحة بهم من الحكم، ورغم إصرار الجماعة لفترة طويلة، على التهوين من أعداد الحشود، إلا أنه يمكن اعتبار أن جزءًا من أسباب عنادها بعد ذلك، هو استيعابها معنى أن يحدث خروج جماهيري ضد الإسلام السياسي نفسه.

 ما واجهه الإخوان بعد الانقلاب العسكري، كان جديدًا في تاريخ الحركات السياسية العربية على الأقل. الإخوان ليسوا مجرد حركة سياسية شابة وطموحة تعرضت لاضطهاد من قبل السلطة لإيقافها، بل حركة سياسية وصلت للحكم، تسيطر على مؤسسات مثل الرئاسة والحكومة ولها وزراء وقنوات وصحف عديدة، فقدت بسرعة شديدة ظهيرها الشعبي الضخم، وقامت ضدها مظاهرات جماهيرية كبرى، استغلها الجيش للانقلاب عليها، وجعل شرعيته الوحيدة، وقيامه بذلك الانقلاب نفسه، دون أي شيء آخر. ولذلك تحتاج الجماعة لكسر هذا الاحتجاج نفسيًا، بعودة من قامت المظاهرات ضده، بينما يرفض بقية العلمانيين الاتفاق على ذلك، لأنهم أصلًا كانوا جزءًا أساسيًا من هذه المظاهرات.

لماذا لا يستطيع الإخوان التخلي عن مرسي بسهولة؟

يثير الاندهاش فعلا أن تتعرض جماعة لاضطهاد شديد ويبقى مطلبها هو عودة رئيس غير كفء أطاح به الجيش بسهولة مستغلًا الغضب الشعبي ضده، لكن ذلك الاندهاش يزول، إذا ما رأينا أن المظاهرات ضد مرسي، ثم عزله، كانت أكبر من مجرد جرح نرجسي في النفسية الإخوانية، لا يمكن علاجه، في نظر قياداتها، إلا بعودة مرسي نفسه.

يحتاج الإخوان، لشكل انتصار ملحمي، يبرر كل هذا القمع الإجرامي الذي يتعرضون له، كما يرسم أفقًا لنهاية سعيدة، يمكن حشد أعضائهم باتجاه ذلك الأفق. أي ليكون ذلك القمع، فصلًا في سردية متصاعدة لانتصار نهائي، وليس فصلًا في قصة سيزيفية يعودون فيها إلى نفس النقطة التي غادروها بإرادتهم من قبل. لكنهم لا يرون ذلك الانتصار النهائي، في تطبيق نموذج إسلامي ما، هم بالفعل لا يمتلكون تصورًا واضحًا له، ولا شكل لتحول ديمقراطي، إذن لا يبقى للإخوان، سوى أن يعيدوا ما أخذ منهم، محمد مرسي مرة أخرى، أن يسجلو انتصارًا رمزيًا على انتفاض الناس ضدهم.

الإخوان لا يريدون الانتصار على انقلاب الحكم العسكري فقط، بل كتيار أيديولوجي، يريدون الانتصار على فكرة الانتفاضة ضدهم، على "30 يونيو" نفسها. يطرح الإخوان أحيانًا -كحل وسط متوهم- أن يعود مرسي للرئاسة لمدة ساعة واحدة، يعلن فيها الترتيبات اللازمة لمرحلة انتقالية ثم يستقيل، لا يرتبط ذلك -في حقيقته- بأي تصورات عن قدسية الإجراءات البيروقراطية، بل بفكرة كسر الانتصار الرمزي لـ30 يونيو عليهم، لأن عدم كسره يعني تسليمهم بانتصارها ومعاني هذا الانتصار. يريد الإخوان العودة لحدود 29 يونيو، ويريد العلمانيون التأسيس على 30 يونيو نفسها، وهو بالتأكيد ما لايمكن للإخوان القبول به.

لا يريد الإخوان الانتصار على انقلاب العسكر فقط، بل يريدون الانتصار على فكرة الانتفاضة ضدهم

استجابة مرسي للغضب الشعبي ضده، بالتنحي، أو تنازل الإخوان عن عودته، يعني التسليم بانتهاء الإسلام السياسي الطموح، المغرق في نرجسية شعارات الخلافة وأستاذية العالم، لصالح التحول لأحزاب يمين وسط محلية، وهو ما لم يقبل به الإخوان، ويبدو ذو دلالة هنا، أن شرائحًا عريضة من الجماعة، مازالت تنظر للتجربة التونسية، نظرة سلبية، وترى أن النهضة فرطت في الثوابت وتنازلت أكثر مما يجب للعلمانيين، ولا يرتبط ذلك، كما لم يرتبط التمسك بمرسي، بأفكار إسلامية محددة خالفتها النهضة، ولكن بقبولها مبدأ الضغط الشعبي عليها، وتحولها، في نظرهم، لحركة مدجنة داخل المجال السياسي.

في النهاية، يمكن تلمس وجود ثلاثة تيارات داخل المعسكر القريب من الإخوان، أولها وهو المعسكر الأكبر الذي يؤيد رأي الجماعة بالتمسك بمرسي، وتيار ثانٍ يرى أن كسر حالة القمع مقدم على أي خيار آخر ويمكن في سبيله التنازل عن أي مكاسب سياسية ترى الجماعة أنها حققتها في وقت ما، وهو تيار كان قريبًا أصلًا من تيارات أخرى انشقت عن الجماعة بعد الثورة، ويمكن اعتباره أحد امتداداتها داخل الجماعة، التيار الثالث، وهو تيار أكثر يمينية، لا يري التمسك بمرسي، ليس للاصطفاف مع العلمانيين، بل لأنه يتبنى نمطيًا إسلاميًا أكثر وضوحًا ويرى أن النجاح في كسر الانقلاب ثم تنفيذ نموذجه الإسلامي هو الانتصار الملحمي الذي يريد وليس أي شيء آخر.

كما يبقى سبب أخير للتمسك بمرسي، وهو انقسام القلب الصلب للجماعة، تجاه كل شيء آخر، عداه، الجماعة منقسمة حول من يقودها، وحول أسباب نجاح الجيش في الإطاحة بها، وحول طرق تعاملها مع هذه الإطاحة، وحول التمسك بالسلمية أم العنف المحدود، ومدى القبول بتحالفات مع آخرين. إذن، بدون فكرة أيديولوجية واضحة وشابة، يمكن النضال من أجل تحقيقها، وبدون حماسة حقيقية لعودة مرحلة التحول الديمقراطي، بعد ماحدث، وبانقسام داخلي تجاه كل الأشياء عدا، عودة مرسي، لن يبقى هنالك أي شيء ليلتف التنظيم حوله، إذا تخلت عن مرسي، حتى لو لم يعن ذلك أي شيء سوى استمرار التنظيم، بدون حتى الحد الأدنى من نجاح هذا التنظيم في مهامه، فالجماعة تفضل دائمًا الانحياز لمصلحة التنظيم المجردة، حتى لو لم تكن مصلحة التنظيم، في نفس مصلحة التيار وأفراده جميعًا.

اقرأ/ي أيضًا: 

ماذا يعني انهيار جماعة الإخوان؟

لماذا لن يصبح حزب النور سفينة نوح للإسلاميين؟