02-يونيو-2016

إسماعيل فتاح/ العراق

على خشبة مسرح مهجور، وبجانب قط ضجرٍ، يقف الشاعر ضجرًا، أو ضجرًا جدًا، يسمع "أنت عمري" لأم كلثوم في عز الظهيرة.. ويفكر: لماذا لم أشترِ علبة سجائرٍ أخرى؟ لماذا نشر محرر الجريدة مقالتي كاملة.. ولم يبلغ رجال الأمن عني؟ لماذا لم أشترِ علبتين إضافيتين من السجائر؟

لم ينتبه لرسالة من أمه على جبينها "مبروك يا بني.. صرت مقبلًا على الانتحار".. لكنه انتبه متأخرًا أنه، وبأقل من ساعتين، نزل وزنه واحدًا وعشرين غرامًا، وأنه نسي ارتداء فردة حذائه اليمنى، وأنه اشترى بما تبقى من راتبه إحدى وثلاثين ربطة عنق، ونظارتين طبيتين، وخمسين كتابًا، ودليلًا للسياح عن المدينة، وولاعة جديدة، وثلاثة علب من السجائر نسيها في المحل، ثم تثاقل أن يعود ويحضرها.

بعد انتهاء موسيقى المقدمة لـ"أنت عمري"، تذكر أنه خرج أخيرًا من عزلته، وأنه أطلق النار على رئيسه في العمل، عرف لحظتها لماذا نشر له المقالة كاملة ولم يبلغ رجال الأمن عنه، ضحك جدًا ثم بكى طويلًا وخاف بشكل لا يحتمل، ثم باغتته اللامبالاة، فأشعل سيجارة أخرى، وحدق طويلًا بقط ضجرٍ جلس فجأة على ركبتيه أثناء تفكيره الطويل.

بدأت "الست" وصعدت بانتظام هادئ في أول غنائها "رجعوني عنيك"، وبين الـ"النون" والـ"الكاف" وبامتداد الـ"ياء"، أخفض صوت الراديو قليلًا، حاول أن يقول شيئًا، لا.. سوف يقول الآن شيئًا: هذا الليل طـ.. ربما هو ليس طـ.. لكنني أشعر جدًا بالملل.. بالملل الطـ..

سكت.. ثم رفع الصوت الراديو مرة أخرى.. لكنه لم يشعل سيجارة أخرى.. خاف أن يهرب القط عن ركبتيه.. فهو الوحيد الذي ألفه دون أن يسأله لماذا تريد الانتحار.. أو لماذا لم تغسل قميصك.. أو لماذا تدخن كثيرًا.. أو لماذا تشتري ربطات عنق لا ترتديها؟
 
هو الوحيد الذي لم يأبه إن كان شاعرًا جيدًا أو رديئًا، إن كان يكمل قصائده أو كعادته يتركها مفتوحة للغبار، الوحيد الذي لم يأبه لماذا يترك نفسه خارج الصور الجماعية دائمًا، الوحيد الذي لم يرَ أن علاقاته الاجتماعية سخيفة، والوحيد الذي كان معه وحيدًا.

"عظمة على عظمة يا ست"، صاح أحد الميتين من الراديو، صرخ الشاعر.. "كـ... أمك أجفلتني". بسرعة خطف الراديو من مكانه. القط هرب فزعًا. و"الست" تغني غير آبهة لما يفعل.. وبخضم تصفيق الميتين لها ومواء القط الخائف رمى بيديه إلى الأعلى، وفي منتصف السقوط توقف.. تحجر في مكانه.. وفي يديه "عمري ضااااايع".. أعاد "الست" بهدوء إلى الطاولة: كلنا ضائعون أيتها العاهرة.. من يسمون شهداء الآن كانوا قد تركوا أرض المعركة وسماءها كي يسمعوك.. 

الساعة لم تدق منتصف الليل بعد، ومنذ أكثر من نصف ساعة وهو يبحث عن قطه الهارب، بحث تحت الطاولة وفوقها، في صوت أم كلثوم وبجيب "جلابية الحاج سعيد الطحان" وهو يصرخ "عظمة على عظمة يا ست"، حتى أنه بحث بعظمة الست ولم يجده.. بحث خلف الكراسي التالفة وبين كشافات الإضاءة المكسرة، بحث في علبة سجائره الفارغة، في ذاكرته، في جيوب المحفظة، في القصيدة في محطات الراديو الأخرى، لكن لم يجده: اللعنة.. لقد ذاب.. آنا آسف يا صديقي.. أعدك بأني سوف أطفئها.. وأني لن أسلم نفسي للغضب قبل أن أنبهك وأقول لك.. وربما سوف أستأذن منك أيضًا.

أشعل السيجارة التي لم يشعلها سابقًا، وسمع مواءً قريبًا، قام فجأة عن كرسيه كشجرة.. عاود البحث.. كان القط يقف بمنتصف الخشبة.. بجانبه شاعر ضجرٌ.. يسمع "أنت عمري" لأم كلثوم في منتصف الظهيرة ويفكر: لماذا لم أشترِ علبة سجائرٍ أخرى؟ لماذا نشر محرر الجريدة مقالتي كاملة.. ولم يبلغ رجال الأمن عني..؟ لماذا لم أشترِ علبتين إضافيتين من السجائر..؟

اقرأ/ي أيضًا:

لكل أعمى وجهة نظر

قصة مختصرة عن أخلاق بلاد الفرنجة المحتضرة