14-نوفمبر-2015

منشية ناصر في القاهرة (Getty)

حادثة كبيرة تحدث في شارع عام في أي مكان في مصر.. سيارة تصدم مواطنًا فيموت، سرقة متجر أو سيارة أو منزل، جريمة قتل.. إلخ، أول ما يبادر به الناس بوعي جمعي ومشترك ودون تفكير طويل هو أن يتفقوا جميعًا على القول: لا. لا نريد الاتصال بالشرطة، لا نريد اللجوء للطرق القانونية حتى لا ندخل في مشاكل، نريد حل الموضوع بطريقة ودية أو عرفية، اعقدوا "مجلس عرب" لمناقشة المسألة وأبلغوا الشرطة بالتنازل عن المحضر في حال تم فتحه أصلًا..!

في مصر، لا يشعر المواطن بأنه على تعاقد مع الدولة أصلًا، بل يتعامل مع الدولة بوصفها أمرًا واقعًا

حادثة كبيرة تحدث في شارع عام في إنجلترا أو ألمانيا أو فرنسا أو أي من الدول الغربية. التفاصيل نفسها. سيارة تصدم مواطنًا فيموت، سرقة متجر أو سيارة أو منزل، جريمة قتل.. إلخ، أول ما يبادر به الناس بوعي جمعي ومشترك ودون تفكير طويل هو أن يتفقوا جميعًا على القول: يجب إبلاغ الشرطة فورًا لكي تتولى التحقيق.

هناك دولة، وهنا أيضا دولة، لكن لماذا يتعاون المواطن مع دولة معينة ويثق فيها ويلتزم بقوانينها ويهتم بمعرفة دستورها؟ بينما لا يهتم المواطن في دولة أخرى بتطبيق القانون ولا يأخذه على محمل الجد.. بل بالعكس يسعى إلى تجنب تفعيله أو تفعيله بطريقة شكلية ويفضل الطرق العرفية والأهلية بديلًا عنه؟

تعيش الدولة المصرية الحديثة منذ عقود طويلة أزمة شرعية، لا أقصد هنا الشرعية بالمعنى المرتبط بالصراع السياسي الأخير في مصر، لكنني أقصد الشرعية بالمعنى الحرفي للكلمة، أن يشعر الناس بأن النظام منهم وأنه يعبر عن شيء وضعوه بأنفسهم لتسيير أمورهم وترتيب أحوالهم، وبالتالي فهم يثقون في حكمه.. ولا توجد أعراف أخرى موازية له، لأن حكمه هو الحكم العرفي الذي تم تقنينه في إطار تعاقد المواطنين مع الدولة.. في مصر لا يشعر المواطن بأنه على تعاقد مع الدولة أصلًا، بل يتعامل مع الدولة بوصفها أمرًا واقعًا، مجموعة من الناس المدججة بالسلاح استولت على السلطة بالقوة ودون الاهتمام برأي أي أحد لكي تفرض ما تريده هي وتقمع من يخالفها فيه، هذه دولة لا يمكن أن يجد شعبها منفذًا للهروب من القانون إلا وسيسلكه تلقائيًا.

يفضل الكثير من عامة الشعب في صعيد مصر وصحرائها الالتجاء إلى الأخذ بالثأر بدلًا من سلك طريق التقاضي في حال ارتكاب جريمة قتل، وحتى في المشاجرات الصغيرة يفضلون التعامل بالقوة أو التصالح العرفي، تتخذ بعض العائلات في مصر حتى الآن عبيدًا من الباطن رغم تجريم العبودية منذ زمن، ويعقد بعض الشيوخ في الأرياف قران فتيات دون سن الزواج المنصوص عليه في القانون وسط رضا الأهل وفرحة الجميع.. القانون الرسمي في مصر لا يدعمه أحد فعلًا، لأنه لا أحد في الطبقات الشعبية العريضة مع الدولة كفكرة أصلًا.

من يضع لمنصب حكومي يسيطر عليه قواعد أخرى باطنية، غير المنصوص عليها، فإنه هو نفسه لا يحترم القانون ولا يدين له بالولاء

للدولة المصرية بالطبع داعمون اختاروا أن يقفوا معها ويثقوا في حكمها وقوانينها وسلطتها، لكنهم أقلية على القمة الصغيرة لرأس الهرم الطبقي، تعيش في معزل عن واقع وإشكاليات وتفاصيل حياة الغالبية العظمى من المصريين في الصعيد والأقاليم والأحياء الشعبية، يسكنون في مستوطنات صحراوية معزولة بأسوار منيعة تتكثف داخلها الرفاهية والخدمات والأمن، كأنهم في دولة أخرى غير مصر الشعبية المطحونة، لا يعرف أكثرهم بمشاكلها حقًا إلا من خلال الجرائد، وأكثرهم ينظرون إلى الدولة على أنها كيان مقبول وشرعي بل يجب تأييده ودعمه بقوة.

وهذا بخلاف مؤيدي الدولة في الأحياء الفقيرة وعشوائيات الصفيح، الذين ينظرون للدولة على أنها كيان أمر واقع، قد يهتفون بحياته حمايةً لرقابهم ولأكل عيشهم، لكنهم يتجنبون التعاون معه فعلًا إذا اقتضى الأمر.. إنهم يتجنبون -مثل الملايين- إبلاغ الشرطة إذا ما وقعت واقعة ما.

في السنوات الأخيرة تجاوزت السلطة المصرية أزمة عدم التعاون الشعبي معها إلى مشكلة أكبر، وهي الهجوم الشعبي عليها، الذي يصل إلى حد الاعتداء العنفي المقبول جماهيريًا في بعض الأحيان والظروف كما حدث أثناء الثورة، والشماتة الشعبية في مصائب السلطة وفشلها.. تلك الشماتة التي بلغت ذروتها ليلة سقوط مبارك عندما امتلأت الشوارع المصرية بالاحتفالات الصاخبة التي شارك فيها الملايين ممن لم يشاركوا في الثورة أساسًا.

إن هذه الشماتة تنبع أساسًا من موقف سلبي تجاه قواعد الدولة وأدواتها، وعدم التجاوب معها بجدية واحترام حتى من قبل المنخرطين في تطبيقها أنفسهم من الموظفين الفسدة ورجال الأمن المتجاوزين والجمركيين المرتشين والقضاة الفسقة.. إن من يضع لمنصب حكومي يسيطر عليه قواعد أخرى باطنية غير القواعد المنصوص عليها في اللوائح والقوانين ويعمل من خلالها فإنه هو نفسه لا يحترم القانون ولا يدين له بالولاء والاعتبار، المسألة ليست أن الشامتين في السلطة والفاسدين فيها على حد سواء "لا يحبون الوطن" بالتعبير العاطفي الشهير، ولكنهم لا يعترفون بشرعية الحكم القائم في جوهر المسألة، وإن لم يكونوا على وعي مباشر بذلك.

تُعرّف الشرعية في العلوم السياسية بالتعبير البسيط على أنها القبول الشعبي للسلطة، إذا كنت تعيش في دولة لا يحترم مواطنوها وموظفوها قوانينها ويحترمون في المقابل قواعد وأعرافًا وتقاليد أخرى غير مكتوبة بدلًا عنها، فهذا سببه باختصار أن نظام الحكم غير شرعي وأن الأعراف القبلية والتعاليم الدينية والعادات المحلية البدائية تنتمي إلى الناس أكثر من القانون، وأكثر من الدستور، وتحظى بينهم بشرعية تفوقهما وتتجاوزهما بكثير.

إن الدولة الحديثة في مصر كيانٌ دخيل ومفتعل.

اقرأ/ي أيضًا:

في ناصرية وساداتية السيسي