24-مارس-2017

من مسرحية ليلة إعدام (تصوير: فضيل حدهم)

للفنّ منطق أيضًا، وإنّ الاحتكام إلى هذا المنطق في تفصيح عرضٍ مسرحي أو تدريجه، هو المعيار السّليم، لأننا سنقع في التعسّف أو الارتجال اللذين ترفضهما روح الفن، إذا نحن احتكمنا إلى الرّغبة أو الميل أو المصلحة أو الإيديولوجيا أو الكتابة تحت الطلب.

بتفصيحنا للعرض المسرحي نحدّد سلفًا طبيعة الجمهور المستهدف 

استضفتُ أكثر من 150 نصًّا مسرحيًا في فضاء "صدى الأقلام" التابع لـ"لمسرح الوطني الجزائري"، خلال فترة إشرافي عليه ما بين سنتي 2005 و2014، وكنت أواجه أصحاب النصوص الفصيحة بهذا السؤال: لماذا اعتمدتَ الفصحى لغةً لكتابة نصّك؟ طبعًا سؤالي لا يُلغي حقّ الكاتب في اعتماد اللغة التي يشاء، فليس هذا من حقي، لكنه يمنحني فرصة أن أعرف إن كان خيار هذا الكاتب مؤسّسًأ أم منساقًا وراء دافع معيّن خارج دوافع الفن. وكان الذين احتكموا إلى منطق الفن في تبرير اعتمادهم للفصحى قليلين.

اقرأ/ي أيضًا: المهرجان الجزائري للمسرح المحترف.. دورة متقشّفة

بعضهم اعتمدها لأنه لا يؤمن بأن للدارجة الجزائرية قدرةً على التعبير فنيًا، وبعضهم لنزعته القومية التي تملي عليه الانتصار عفويًا لـ"لغة الأمة"، لأنه حُقنَ بالاعتقاد القائل إن الدارجة طعنة في خصر اللغة القومية الجامعة، وهذا نقاش، كما هو معروف، لم يمسَّ في الفضاء العربي المسرح فقط، بل تعدّاه إلى جميع الفنون تقريبًا أبرزها الشعر، وبعضهم اعتمد الفصحى طمعًا في الوصول إلى جمهور عربي خارج الجزائر، لأنه لمس نفورًا عربياً، عادة ما لا يكون مبرّرًا، من اللهجات المغاربية خاصّة الجزائرية منها، وبعضهم فعل ذلك مجاملةً لتظاهرات ذات بعد عربي أو إسلامي مثل تظاهرتي "الجزائر عاصمة الثقافة العربية" و"تلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية".

اشتغلتُ مصحّحًا لغويًا في مسرحياتٍ كثيرةٍ، خاصّة مع المخرجين المخرج حيدر بن حسين وشوقي بوزيد، وكنتُ ألمس صعوبة وصول الممثل إلى إدراك دلالاتِ كلماتٍ أو جملٍ أو مفاصلَ معينةٍ من النص، وهو إن أدركها ذهنيًا، بعد أن يتلقى شرحها، فإنه لا يدركها بإحساسه، وهنا يطرح هذا السؤالُ نفسَه: كيف يستطيع ممثل أن يوصل المعنى إلى المتلقي إذا كان هو نفسه لا يستشعره عفويًا؟ أليس سؤالًا وجيهًا؟

في الجزائر، ساد الانطباع بأن المسرح الجيد هو الذي يعتمد الفصحى أداةً لغوية له

شخصيًا لا أتفهم عرضًا مسرحيًا يعتمد العربية الفصحى إلا في حالتين: أن يكون العرض من المسرح العالمي الكلاسيكي/ شكسبير مثلًا، مع إيماني بإمكانية تدريجه، فقط لا بد من توفر وعي حاد بجماليات الدارجة عند المترجم، وفي حالة تقديم العرض في فضاء أجنبي تسهيلًا لعملية الترجمة الفورية. ذلك أننا بتفصيحنا للعرض نحدّد سلفًا طبيعة الجمهور المستهدف، أي المتعلّم، وهنا يُطرح سؤال الجدوى أصلًا، كما يطرح سؤال الانسجام، مع السياق الاجتماعي والإنساني الذي أفرز الموضوع المعالج، إذ ما معنى تفصيح لحظة حالية في حانة أو مطعم أو صالون بيت؟ 

اقرأ/ي أيضًا: بوتشيش بوحجر.. ماريشال المسرح الجزائري

تاريخيًا تفاقمت ظاهرة تفصيح المسرح في الجزائر، خلال سنة 2007، حيث عُيِّنت عاصمة للثقافة العربية، ثم تكرّست الظاهرة حتى ساد الانطباع بأن المسرح الجيد هو الذي يعتمد الفصحى أداةً لغوية له، وقد راجعتُ الفنان امحمد بن قطاف مدير المسرح الوطني الجزائري مرة في الأمر، فوجدته مشمئزًا.

قال لي إنه لم يشأ أن يفرض على الكتّاب توجهًا لغويًا معيّنًا، لكنهم تمادوا في التفصيح خارج منطق الفن، ولازلت أذكر معنى عبارته "ما معنى أن تفصّح لحظة شعبية صِرْفًا، وقد حدثت أصلًا وفق خيال وإحساس لغة الأم/ الدارجة؟". بعدها لاحظتُ أنه بدأ يتدخل فيطلب من كاتب نص تم قبوله في المسرح الوطني الجزائري بتدريج نصه، لأنه لا يتوفر على مبرّرات التفصيح.

 

اقرأ/ي أيضًا:

عزّوز عبد القادر.. أن تسحب أفريقيا إلى المسرح

أيوب عمريش.. سندباد المسرح في الجزائر