18-مايو-2023
غرافيتي لـ شيرين أبو عاقلة على جدار الفصل العنصري في بيت لحم

غرافيتي لـ شيرين أبو عاقلة على جدار الفصل العنصري في بيت لحم

استرعى انتباهي منذ حوالي السنة، أي بتاريخ 11 أيار/مايو 2022، "برومو" أخذ بالتكرار على مختلف المنصات والصفحات والمواقع الشخصية للبنانيين وفلسطينيين وسوريين وسعوديين وقطريين وأردنيين... إلخ، وصولًا إلى مختلف صفحات المعمورة، وهو فيديو كانت قد بثته قناة الجزيرة في ذكرى تأسيسها قبل ذلك بفترة. "برومو" تقول المراسلة شيرين أبو عاقلة فيه: "اخترت الصحافة كي أكون قريبة من الإنسان. ليس سهلاً ربما أن أغيّر الواقع، لكنني على الأقل كنت قادرة على إيصال ذلك الصوت إلى العالم".

للوهلة الأولى، لم يلفتني القول بقدر ما لفتني استخدام المراسلة لمصطلح "الإنسان"، دون ربطه وحصره بالإنسان "الفلسطيني"، ولا بأي إنسان آخر. وهي المراسلة الفلسطينية، لا بل هي إحدى قنوات سماع صوت الداخل الفلسطيني، وإحدى أبرز ممثلي ذلك الصوت المخنوق.

لم تكن شيرين أبو عاقلة مجرد مراسلة، لم تكن مجرد فلسطينية تنتمي لواحدة من أعدل القضايا على امتداد المعمورة. لم تكن مجرد إنسانة تؤدي مهامها وعملها اليومي دون أي زيادة او نقصان

لقد أدركتُ، وبشكل سريع، أن للأمر دلالات عدة، أهمها: 

  • كفاءة مراسلة تتعرض بلادها لإبادة منظمة، ويتعرض شعبها لقتل مستمر، فتعمم من الإنسان الفلسطيني إلى الإنسان عمومًا، لعلها تستطيع أن توصل الجريمة وتنقلها بلغة كل الناس، بهمومهم، بلغة وتفاصيل تمسّهم بمعزل عن المكان والارتباط به وبشعبه. الكفاءة حين تتحرر المراسلة من التقوقع في الحدث، على أهمية وخطورة الحدث، وعلى راهنيته المستمرة. حين تتحرر من التقوقع في الزمان وفي المكان، وفي القضية التي تمسها، قضيتها. 
  • قوة المراسلة وقدرتها على التخطي، ليس بلامبالاة، بل بإنجاز. قدرتها على عالمية الرسالة التي تقدمها، والسعي الذي تسعاه. أن تتحرر المراسلة من احتلال الاحتلال ليومياتنا ويوميات شعبها ويومياتها، لتلاحق ما يمس الإنسان الكوني انطلاقًا من الإنسان الفلسطيني، وانطلاقًا من احتلال يقتل كل ما تدب الحياة فيه. أن تتحرر المراسلة من لحظات لم تعشها هي وشعبها وفلسطين فحسب، بل عاشها العالم بها ومعها أيضًا. لقد عاشتها معها الشعوب المتضامنة عندما قفزت شيرين المراسلة من الشاشة إلى بيوتنا، بيوت الناس، في فلسطين وخارجها، خلال حقبات مختلفة من ملامح الحدث الفلسطيني المستمر والحدث العربي المضمر. 

لم تكن شيرين أبو عاقلة مجرد مراسلة، لم تكن مجرد فلسطينية تنتمي لواحدة من أعدل القضايا على امتداد المعمورة. لم تكن مجرد إنسانة تؤدي مهامها وعملها اليومي دون أي زيادة او نقصان. ولم تكن كائنة تضطر لأن تقوم بهذا العمل لتؤمن عيشها وخبزها ومائها فحسب، بل كانت تقارع الحدث، كانت تسمو لتتماهى مع تخوم القضية حين كانت إحدى أوجه هذه القضية، وإحدى تبدياتها، أقله بالنسبة لنا نحن المتابعين من خلف الحدود ومن خارج الاحتلال اليومي، من خلف جدران الفصل العنصري وما يحيطه من جدران شاهقة تكللها أسلاك شائكة.

كانت شيرين إحدى أوجه القضية، بالإضافة ﻷوجهها المتبقية الذين أذكرهم في حينه، جيفارا البديري ووليد العمري... وغيرهم كثر، وأنا الذي أهاب الدخول في لعبة الأسماء لخطورتها. كانوا فلسطين في مشهد نتسمّر أمامه لنتابع كافة الأحداث في حدث، كافة الشاشات في شاشة، كافة الأمكنة في مكان. وهذا الحدث والمشهد والشاشة والمكان كلهم في تلك الفترة الجزيرة، كلهم يذهبون بنا إلى فلسطين لحظة الحدث.

لربما نستطيع نحن اللبنانيين القول: شيرين المراسلة لم تكتف بنقل الحدث الفلسطيني فحسب، بل تابعناها، هي ورفاقها ورفيقاتها، حين كانوا يغربلون أصداء الشارع داخل الأراضي المحتلة بالتزامن مع الاعتداءات المتكررة علينا. حين كانوا ينقلون رواية الاحتلال ودعايته الإعلامية بحذر، وبكثير من التأني والمقاربة النقدية، سواء الرواية السياسية أو الأمنية او الرواية العسكرية، فكانوا إحدى أوجه المواجهة حين كان الاحتلال يكثّف اعتداءاته اليومية علينا في لبنان في حقب وفترات زمنية مختلفة. لقد كانت شيرين، وكانوا رفاقها ورفيقاتها، جزء من المعركة. كانوا رفاق سلاح، وكانوا بعض الدفء في هذا العالم الموحش. كنا نرى بلادنا أيضًا في رواية شيرين، في بريق عينيها وتهدّج صوتها، في رواية وفي عيون رفاقها ورفيقاتها.

هذا ما ضاعف الحزن والغضب في وجداننا حين استشهدت. حقًا، هو ما أسقط علينا خبر الاغتيال كحمم بركانية. وكأننا تعرضنا لوابل من القصف المستمر ومن الصواريخ والبراميل المتفجرة، وحملة اعتقالات تعسفية اعتاد شعبنا العربي عليها في فلسطين وفي الدول التي تزعم "تحريرها". نحن الذين فقدنا بفقد شيرين ليس مجرد مراسلة، بل فقدنا بعض ذاكرتنا، وفقدنا بعض تفاصيل وروايات الحروب التي أعلنها العدو علينا. فقدنا بعض المشهد الذي دخل تفاصيلنا لسنوات، فبتنا نحن جزءً أساسيًا من تفاصيله. والأمر ليس بالسهل حين تتماهى مع القصة، وحين تدخل القصة في أعماقك لتتحول القصة فتصبحك. فقدنا مقاتلة قبل أن تكون مراسلة، فقدنا كاميرا ومذياع، فقدنا عين مجردة تحدّق بالحدث. وفقدنا، فوق هذه وتلك، رواية اعتدنا على أحداثها المستمرة.

اغتال الاحتلال شيرين لأنها شيرين أبو عاقلة، ولم يسمح لقناصه أن يخطئ أو أن يتلكأ بالضغط على الزنّاد. لم يكن ليتحمّل أي خطأ. لقد أرادها جثة هامدة، أرادها صوتًا مكبوتًا

كان الاغتيال جللًا، من دون أية مواربة أو مبالغة. اغتال الاحتلال شيرين لأنها شيرين أبو عاقلة، ولم يسمح لقناصه أن يخطئ أو أن يتلكأ بالضغط على الزنّاد. لم يكن ليتحمّل أي خطأ. لقد أرادها جثة هامدة، أرادها صوتًا مكبوتًا. أراد إنهاء تفاصيل هذه الرواية، رواية شيرين، ولو قبل أوانها. أراد إنهاء الرواية بأكملها. أراد أن يستبدل الخاتمة، ليخطّ خاتمته هو، بالطريقة التي يريدها، بأي ثمن. أراد أن يبعثر تفاصيل المشهد، أن يتلاعب بأحداثه، وأن يقلب السبب إلى نتيجة. وأراد، فوق هذه وتلك، كسر عدة أنماط في نمط، إطفاء عدّة عيون في عين، كسر نموذج المرأة العربية الكفؤة، المرأة الناشطة والمناضلة، المرأة الفاعلة والمقاتلة وإن من دون سلاح. أراد قتل نموذج الإعلامية الموضوعية والإنسانية التي تكونن تغطيتها، فتحدد ملامح مفهوم الإنسان بملامح وجه الفلسطيني والفلسطينية وأفقهما وأحلامهما، وبقضيتهما. أراد قتل الكفاءة في شخص شيرين، وفي كل فلسطيني وفلسطينية يطمح لأن يرى بلاده خارج الكادر المفروض على نظره منذ عقود. ليس خافيًا على الاحتلال أن يشعر بالتهديد من أي شيرين تقوم بواجبها، ليس خافيًا أن نقول إن مجرد إنسانة فلسطينية تتحلى بالكفاءة الاستثنائية اللازمة هي تهديد مباشر له، مجرد فلسطيني أو فلسطينية يتحرر وتتحرر من القوالب الجامدة التي يحاول عبثًا أن يفرضها عليه وعليها، فكيف بمراسلة بعدسة من عدسات تكثيف الصورة من طراز شيرين؟

لقد أصر الاحتلال على إنهاء رواية شيرين منذ سنة، في 11 أيار/مايو 2022 على وجه الخصوص. بعد هذا العام تبدلت معطيات كثيرة، تغيرت مقاربات، انهارت أبنية وسقط الكثير من الشهداء، لكن التعازي هي نفسها لأولئك العالقين في الرواية حتى اللحظة، للعالقين منذ يوم الاغتيال داخل الشاشة والمشهد.