12-ديسمبر-2018

استراحة عابرة للراحليْن على إحدى الطرقات السريعة (ألترا صوت)

التقى "ألترا صوت" بالرّحّالين الجزائريين الشّابّين عبد العزيز الكيلاني (20 عامًا) وسعيد التومي (21 عامًا) في مدينة برج بوعريريج الواقعة على مسافة 200 كيلومتر إلى الشّرق من الجزائر العاصمة، وذلك في طريق رحلتهما، التّي امتدّت على مسافة غير منقطعة تقدّر بثلاثة آلاف كيلومتر، وشملت 28 مدينة في الغرب الجزائري، منها معسكر وسيّدي بلعبّاس وتلمسان، وفي الشّرق منها عنّابة وقسنطينة وسكيكدة، وفي الجنوب منها المسيلة وبوسعادة، وصولاً إلى الأغواط، التي انطلقا منها.

قطع الشابان عبدالعزيز الكيلاني وسعيد تومي، رحلة طوافٍ في الجزائر على أقدامهما، قاطعين حتى الآن ما يقدر بثلاثة آلاف كيلومتر

وكانت الحركة الأولى، التّي فرضها علينا الفضول، معاينة الأغراض التّي رافقتهما في حقيبتين تزن الواحدة منهما 25 كيلوغرامًا، فوجدنا ألبسة وأحذية وأدوات طبخ، وكتبًا باللّغتين العربيّة والإنجليزية لكتّاب جزائريين وإنجليز وفرنسيين، وخيمة تُنصب بشكل آليّ كانا يبيتان داخلها كلّما أدركهما اللّيل.

اقرأ/ي أيضًا: فاتح السوفي.. السائق الراهب في طرقات الجزائر

توجهنا إليهما بالسؤال عن تحمّلهما لهذا الوزن على ظهريهما، فراحا يتبادلان الابتسام، ثمّ التّمسيد على الحقيبتين، في إشارة منهما إلى العلاقة الحميمة التّي باتت تجمعهما بهما.

يقول سعيد تومي: "إذا كنّا بلا حقيبتين ورأيتنا نحمل أطفالًا فلا تندهش، ذلك أنّنا بتنا لا نستطيع المشي وظهرانا فارغان". وبالفعل فقد بادرا إلى حمل طفلين أفريقيين كانا في المكان الذّي وضعا حقيبتيهما فيه.

يعلق عبد العزيز الكيلاني: "من المفارقات التّي رصدناها في الزّمن الجزائريّ الجديد، أنّ القفّة والحقيبة باتتا تُحملان من طرف كبار السنّ لا من طرف الشّباب. هناك وَهَن وتراخٍ أصبحا مسيطرين على الشابّ الجزائريّ".

فسّر تومي الانخراط في هذه الرّحلة المشتركة مع عبد العزيز، بكونهما يُمارسان المسرح وفنونًا أخرى منذ الصّغر في مدينة الأغواط، الواقعة على بعد 400 كيلومتر إلى الجنوب من الجزائر العاصمة. فوالد عبد العزيز الكيلاني مخرج مسرحي معروف هو هارون الكيلاني، ووالدته شاعرة تملك أكثر من ديوان مطبوع، هي مي غول.

يستطرد تومي: "وجدنا نفسينا نشترك في طفولة واحدة، كنّا نفضّل فيها أن نجلس في المقاعد الموالية للنّوافذ في السّيّارات والحافلات والقطارات، حتّى نُعاين ما يظهر من حقول وسهول وجبال وبراري، ونحلم بأن نخوض فيها بأقدامنا".

ويستكمل الكيلاني حديث تومي بقوله: "رحلتنا هذه هي وفاء منّا لذلك الحلم. ومنه فضّلنا أن تكون على الأقدام، ما عدا مفاصل قليلة كنّا نضطرّ فيها للرّكوب مع أحدهم"، لافتًا إلى تباين جغرافية الجزائر، البلد العربي الأكبر مساحة، فيقول: "إن الجزائر قارّة" في حجم مساحتها، مكملًا: "هي قارة من الجغرافيات والفصول المتباينة؛ ففيها البحر والبحيرة والجبل والسهل والغابة والصحراء، وفي كل واحدة من هذه الجغرافيات تنويعاتُ مذهلة".

ويعتقد الكيلاني أنه مع هذا الاختلاف والتنوع في الجغرافيا الجزائرية، يُصبح "على الجزائري أن يخجل من كونه لا يسافر داخل أراضي بلاده، ويحلم بالسفر السياحي للخارج".

من هنا، يوضح عبد العزيز الكيلاني لـ"ألترا صوت": "فكّرنا في رحلة طويلة لندافع عن حقّ التّخييم في الجزائر". يشرح فكرته: "بات الجزائري في السّنوات الأخيرة يواجه جملة من التعسّفات والإكراهات، منها ما يتعلّق بإجراءات أمنية وإدارية ومنها ما يتعلّق بالسّكّان، تمنعه من أن يخيّم في البقعة، التّي يشاء ويشتهي".

ويتساءل: "ما معنى أن تنصب خيمتك في بقعة بحرية أو غابية أو جبلية أو صحراوية، فتجد نفسك مطالبًا بتبرير ذلك لرجال الأمن أو لأحد السكّان طمعًا منه في أن تدفع له؟ ما معنى أن يكون عدد المخيّمات أقلّ من عدد الشّواطئ الممتدّة على طول 1200 كيلومتر؟".

عبدالعزيز الكيلاني وسعيد توني
عبدالعزيز الكيلاني وسعيد تومي، أثناء توقفهما مؤقتًا خلال رحلة طوافهما بالجزائر

وفي نفس السياق، يقول سعيد تومي: "إنّ انتشار هذه الإكراهات أدّى إلى اعتقاد الجزائريين أن التّخييم ممنوع، وجعله ثقافة محدودة في مجتمع فيه 40 مليون مواطن، في مساحة هي الأكبر عربيًا وأفريقيًا!"، مشيرًا إلى مفارقة هي أنّ الحكومة تتفاخر بمشروع السلم والمصالحة الوطنية، الذي عاد بموجبه الأمن إلى الفضاء الجزائري، لكنّها "تُضيّق على المساعي التي تؤكّد هذا الأمن، ومنها التّخييم الذي يساهم في التّعارف وتبادل الثقافات والتّنفيس".

ويضيف تومي في نفس السّياق: "تابعت كثيرًا من النّقاشات التي تناولت موضوع العنف عند الشّابّ الجزائري، ولم أجد من ذكر أنّ قلّة السّفر وحرية الترحال والتنقل، ومن ذلك ثقافة التخييم، هي من الأسباب المحتملة للنزوع نحو العنف".

ومن هذا الخيط الذي مّده تومي، يطرح الكيلاني سؤالًا مفاده: "ماذا ننتظر من شابٍّ عاجز عن السّفر إلى الخارج، على مستوى المال وإمكانيات التّأشيرة، ومبرمج نفسيًا على أن السّفر داخل بلاده صعب، بالموازاة مع ندرة قدوم السيّاح الأجانب إليه؟ لقد أدّى هذا الواقع غير المدروس إلى نشوء جيل جزائري أحادي الفكرة والنّظرة، ممّا برمجه على التديّن الشّكلي".

الملفت في رحلة تومي والكيلاني أنها كلفتهما "صفر دينار"، وذلك كما يوضحان، "ليس من باب العوز، بل من باب أن نمنح لأنفسنا فرصة اختبار أحكام مسبقة وجاهزة كبر عليها جيلنا، منها أنّ الجزائريّ لم يعد يستقل الجزائريّ ولا يساعده".

يستطردان في التوضيح: "ذلك أنّه من الآفات المنتشرة مؤخرًا بين الجزائريين، الأحكام المسبقة عن بعضهم، إذ تتحوّل إلى قناعات اجتماعية، من غير أن تكون ثمرة لتجارب ميدانية". ويضيف عبد العزيز الكيلاني: "لا مواطن الشّمال بات يعرف مواطن الجنوب، ولا العربيّ يعرف الأمازيغيّ، ولا الجيل القديم يعرف الجيل الجديد".

ويرى الكيلاني أن من ثمار هذا الوضع الذي أسهب في توصيفه، غياب التّنسيق بين روافد المجتمع المدني، "ما يحرمه من أن يكون قوّة اقتراح أو قوّة تغيير"، على حد قوله، مدللًا على ذلك بـ"والدّليل أن الاحتجاجات الاجتماعية باتت قطاعية ولا تجد دعمًا لها من القطاعات الأخرى. فالأطبّاء يحتجّون بمفردهم، وكذلك الطّلبة والمعلّمون والأئمّة والمهندسون. بل بات المواطن المقيم في بقعة ما لا يتعاطف مع المواطن المحتجّ في بقعة أخرى، هذا إذا لم يُشوّش عليه".

انطلق الشابان من مدينة الأغواط، أعزلين إلا من خيمتهما وأغراض بسيطة، ورغبة كبيرة من اكتشاف المكان والإنسان. قال تومي: "بدأنا في الرحلة وكلنا استعداد لأن نتعامل بعيدًا عن التشنج، مع ما تزخر به الأماكن التي نرتحل إليها من عادات وتقاليد ولهجات وافكار. وقد أدهشنا هذا التعدد"، ملمحًا للحديث السابق بقوله، إن "هذا التعدد وبدلًا من أن يكون عامل إثراء بتكامله، بات عائقًا في ظل سيادة الأحكام المسبقة التّي أثمرها غياب التّبادل والأسفار بين الجزائريين".

في إحدى القرى التي حطّوا بها، وهي قرية وادي الابطال، بكا الشابان تأثرًا من شدة الكرة والحفاوة التي قوبلوا بها من أهالي القرية: "لقد أعطونا كل شيء. ولم يسمحوا لنا بالمغادرة إلا بعد أن اطمأنوا على أننا سنكون بخير". الغريب أن هناك من نصحهم ألا يطيلا المقام في تلك القرية كي لا يتعرضا للأذية! 

انطلق الشابان من مدينة الأغواط، أعزلين إلا من خيمتهما وأغراض بسيطة، ورغبة كبيرة في  اكتشاف المكان والإنسان بعيدًا عن الأحكام المسبقة

يقول عبد العزيز الكيلاني بتأثّر إنّهما تخلّيا عن الخريطة والبوصلة، "لأنّنا أصبحنا، بعد ثلث الرّحلة، مسكونين بالطمأنينة والشّغف والمتعة. وصار شعارنا، لكثرة المفاجئات السّارّة: الآن سيقع لنا أمر رائع". وفعلًا كان يحدث لهم ذلك، حتى أنهما أطلقا على نفسيهما لقب "الدرويشين". 

يختتم الكيلاني حديثه قائلًا: "أحسست بنفسي شخصية هاربة من رواية قديمة. وعرفت أنّ المسافر الذي يجوب العالم، يسكنه العالم بدوره"، يستكمل تومي حديث رفيقه: "لقد سكنتنا الجزائر".

 

اقرأ/ي أيضًا:

الحكواتي محمد طالبي.. "جدّي المخفي" الحافظ للتراث الشفوي الجزائري

عبدالله مالك.. شاب يرعى أعمال الشباب في الجزائر