10-أغسطس-2020

متظاهر في العاصمة اللبنانية بيروت يوم 9 آب/اغسطس 2020 (Getty)

يبدو لي أن لا أقسى على المفاهيم  الفاضِلة وتحديدًا في حقول السياسية والاجتماع والدين وغيرها من الإساءة التي تنبع من الداخل بادّعاء المرء/الجماعة/الحزب تبني المفهوم ثم ارتكاب الشر تحت يافطته.

يؤدي تكرار العبارات والشعارات الوطنية والأخلاقية على ألسن الفاسدين ليس إلى تفريغها من مضمونها فحسب، بل إلى النفور منها أيضًا

في عالمنا العربي، ومنذ أن شرعت بلداننا بتسييج كياناتها كدول وباتت تنتج نخبًا وطنيةً تتبنى قضايا الأمة عمومًا والقطر خصوصًا، ساد نقاشٌ حول الأيديولوجيات كنتيجة لاختلاف الأفكار والثقافات والتوجهات. لكن قيمًا كثيرة تغيرت بفعل الحركة الأيديولوجية المتبنية لها في نظر عامة الناس بل أصبح بعضُها يُثير النفور لدى نفوس الشعوب، وذلك حديثٌ يطول ويتمفصل.

اقرأ/ي أيضًا:  بيروت الصورة.. بيروت الواقع

لعب الاستبداد والفساد، متلازمتا الأنظمة العربية، دورًا كبيرًا في ضرب القيم الأصيلة للشعوب العربية حتى وصل الحال إلى ما هو عليه في شتى الأمور. أولها التطبيع مع الكيان الصهيوني وليس آخرها التعاطي السلبي مع السيادة والحرية والديمقراطية.. إلخ.

في العراق، وبوجود طغيان سياسي زد عليه الحروب المتوالية ثم الحصار الاقتصادي خلال عقد التسعينات، سلخ من جلد المجتمع الكثير من أخلاقياته وطبائعه الخيّرة. ثم جاءت الطبقة الحاكمة الجديدة مع بول بريمر لتُجهز على ما تبقى من أفكار تشكل القالب الاجتماعي التقليدي.

بدأ المجتمع العراقي يلفظ الطبقة السياسية الجديدة التي أرته السم الزعاف بفسادها وعمالتها وبطشها وفوضويتها بعد سنوات من الخداع الطائفي بدأ بالزوال تدريجيًا بالتوازي مع انقشاع غيوم الطائفية؛ لكن اللفظ يأتي دفعة واحدة حاملًا معه الكثير من المفاهيم التي تلوكها السلطة الحالية حيث ترتبط في لا وعي الناس بمن تتمثل بهم وإن كانوا كاذبين مدّعين.

أثناء تكوّن الرفض الكلي للأحزاب وقادتها من قبل القواعد الجماهيرية يغيب التمييز بين القضايا الأساسية التي تتفق عليها أغلب شعوب العالم، وبين الشخوص الذين يتمثلون لتلك القواعد كشياطين يأتي من أمامهم ومن خلفهم شرٌ مطلق.

في الوقت الذي تلفظ فيه الجماهير القادة السياسيين في العراق والعديد من الدول العربية، وبغياب النماذج البديلة، يطال الرفض كل قيمة من شأنها هي ذاتها تحسين الأوضاع السيئة المعاشة وإنْ تبناها معارضون. ويزداد الأمر تعقيدًا مع إصرار الطبقة السياسية على التشدق بعبارات كالوطن والسيادة والكرامة والاحتلال والمقاومة والحرية.

إذ يؤدي تكرار العبارات والشعارات الوطنية والأخلاقية على ألسن الفاسدين ليس إلى تفريغها من مضمونها فحسب، بل إلى النفور منها، كون الجماهير تتلقى ما يقوله النظام ويفعله حزمةً واحدة One package.

أٌراقب بجدية ما يكتبه شباب ومراهقون على مواقع التواصل الاجتماعي من تعليقات حول مواقف وتصريحات ذات مفاهيم قيمية. والحال لا يَسرُّ إلا عدوًا من مصلحته مسخ شعوب المنطقة وتحويلها إلى قطعان بشرية لا تريد سوى سد رمقها من الخبز المسروق بفساد وإهمال واستبداد الأنظمة وسوء إدارتها لثروات البلاد.

اقرأ/ي أيضًا: حسن نصرالله: ازدواجية القديس والشيطان

في الذهن رغبة في تناول مفهوم المقاومة، لكن الذي استعجل كتابة هذه السطور المختصرة، حقيقةً، وببساطة، هو هتاف بعض الشباب اللبناني للرئيس الفرنسي ماكرون ومطالبته بإعادة الانتداب الفرنسي على لبنان. ومن يُتابع عن كثب المرحلة التي وصل إليها الجيل الجديد لا يستغرب هذه المطالبة ولا يغض الطرف عن أهميتها. والمضحك المبكي أن تعليقات الفرنسيين أنفسهم على خبر ماكرون مليئة بالسخرية اللاذعة والانتقاد والاتهام بالابتزاز وخلق الفوضى ضد رئيسهم "المخلّص" لأخينا العربي.

والسؤال الأول الذي يتبادر إلى ذهن متابعٍ غير عربي: ماذا فعلت هذه الأنظمة بشعوبها ليصلوا إلى هذا الحال من العجز واليأس والتعويل على أنظمة أجنبية للخلاص من جحيم الأنظمة "الوطنية"؟. الاقتباس حول كلمة وطنية ربما يجيب على السؤال.

لا تكتفي الأنظمة العربية المعنية بالفساد والطغيان والقمع وانهيار الاقتصاد والبنى التحتية وضياع مستقبل الأجيال، بل تُسيء لكل إمكانية تغيير بإساءتها لوسائل التغيير النظرية والمعنوية. تتهم نخبها وجوقتها الشعوب المطالبة بالإصلاح والتغيير بأنواع التهم الخاصة بالتآمر والعمالة، حتى يصبح المفهومَين دون معنى. 

يُمكن للمرء أن يتفكّر بردود فعل الناس اتجاه متبني لواء الإصلاح بذات الشعارات التي ترفعها النخب الحاكمة. كيف يتلقى المواطن العراقي غير المهتم بقضايا السياسة من زواياها العميقة، دعوات التضامن التي يطلقها شخص مثل عادل عبد المهدي؟ وكيف يتلقى اللبناني دعوات محاربة الفساد التي يطلقها أمراء الفساد هناك؟ وكيف يتلقى المصري الشعارات الوطنية التي يطلقها السيسي وإعلامه؟ وكيف يتلقى السوري حديث بشار الأسد عن السيادة؟.

أنظمتنا مصيبةٌ مركبةٌ، تدمّر البلدان وتمنع عمرانها، تخلق المشكلات وتمنع حلها. معضلةُ تغييرٍ حسبك إدراكها بما جرى في الثورات العربية.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

الإنسان بين الحرية والتكليف: محاولة الاكتمال

فوق ركام مرفأ بيروت