20-أغسطس-2020

لوحة لـ فينسنت فان خوخ

لا تلينُ المطارق عادةً بعد أن تُنهي مهمتها الوحيدة، والصوتُ الذي يصدرُ عنها لا يتجاوزُ أنينَ مسمار ضعيف لا يقوى على الصمود، وإن أرادَ الاحتجاج، لوى عنقه وذابَ في الجسد.

مسامير مختلفة اخترقت أجسادنا، ومع كلِّ واحد جديد، يتسربُ الفولاذُ إلينا فيصير سورًا.

فُولاذُنا أعمارنا التي قضيناها نمتصُّ صِدام المطارق، وحين مرَّ خيالٌ أوحى إلينا بأنها انتهت، غُرزنا من جديد بواحدٍ أكثر حِدّة، أوقظَ فينا ما لم نحتسب من صور، وخدوشٍ بقيت لتذكرنا أنها هُنا، فنستكين.

حتى قَطرات المطر صارت مدببةٌ أطرافها، تنخزُ فروةَ الرأس في اللحظةِ التي نستدعيها مُجازفين بقطعِ إشارة مُشاة حمراء، نَتَلهى عن الطريق بنمنمةٍ دقّت مَكانَاً لم يمسَّه شيء من قبل، ففاضت الذكرى وتصلّبت أقدامنا.

كادت أن تُنهي حياتنا تلك السيارة المُسرعة، وإن فعلتها، فستصيرُ لقطرات المطر قصّة ترويها، وستفخرُ في يومٍ ما، بأنها كانت آخر ما مَسّنا من ماء، جزءٌ من الحفلة الحزينة التي سيقومون بها، لِغَسلِنا.

المدينةُ تفردُ ليلها لتظللَ أحلامنا وتسرقها، نحبها وتكرهنا، نكرهها وتُحبّنا، علاقةٌ معقدة لم نفهمها حينَ طردتنا من حضنها قائلة؛ اكتفيت منكم، هاجروا ولاحقوا احلامكم التي وأدتها وإن ليسَ لكم، فلمن سيأتي بعدكم.

طَرَقاتٌ كثيرة تركت فينا نُدَبًا لطالما حاولنا إخفاءها ونحنُ نسير على أسفلت المُدن الجديدة، هطل المطر فكانَ حُجّة لنا، لنبكي بكاء الأطفال في الشوارع.

*

 

الماضي ليسَ تاريخًا فقط، فهو أيضًا، تلك الفكرة التي تتعربشُ عقلنا وتتشبثُ به، وهو كذلك، الضوء الذي انطفأ رغم كل محاولاتنا في إعادة إشعاله، وهو حَتمًا.. مِطرقة لعينة لا تتوقف عن ضَربنا.

الماضي هو رائحة الشمعة التي تبقى لدقيقتين بعد أن ننفخَ عليها من روحنا لتنطفئ.

وهو تلك اللحظة التي تغرق فيها حبّة السُكّر في فنجانِ شاي.

وكلُّ ماضٍ مضى، كهبّةِ ريح مُستعجلة تريدُ أن تصل إلى مُنتهاها.

*

 

لَم يُصلب أحد بعدَ المسيح، لكننا تَصَلبّنا دهشةً أمام ما حدث، وما يحدث. فاقت قوةُ المشهد قدرة حواسنا على الاستيعاب، فلم نملك حينها سوى أن نضغطَ على زرِّ اعادةَ التشغيل لعلّنا نفهم.

لم نُدرك حينها أنه من المُمكنِ أن تكونَ الخيانةُ من الداخل، داخلنا، حواسّنا ذاتها التي عشنا معها ولها، انطفأت، واطفأءتنا.

*

 

للمؤمنين، في قلبي غَبطة وشيءٌ من الحَسد.

وجدوا راحةً ما لم أجدها، سَعيتُ وراءها كثيرًا فخانني الطريق، أو لربما حَدسي.

للمؤمنين بأي شيء، أولئكَ الذين يرددون ما يُتلى عليهم من حِكمٍ ومواعظ، لمن يدافعون عن حَيِّزهمْ الخاص، وللسارحين في هدوء الحياة رامينَ كل صخرةٍ تواجههم بعيدًا، لهؤلاء، ولغيرهم الذين اختاروا أقصرَ دربٍ أشعرهم بالدفء، أو بالانتماء.

لأولئكَ الذين على استعدادٍ لفعلِ أي شيء لينطفئَ نورُ الحياة، وتنتشرَ رائحةُ الشمع لدقيقتين فقط.

لهم، ولمن هم على دربهم؛

لم تُصبكمُ المَطارقُ على الجزءِ الذي سَيُضيء لكم عَتمة الزقاق الذي تعتقدون أنّه كلّ شيء، والشرارةُ التي تومضُ من احتاكِ الحديدِ بالحديد كانت سبيلَ من سبقوا ليخترعوا النار.

خذوا نارَ الطريق لتبصروا ما أهملتم،

وآمنوا، مثلما تؤمنون، أنه لولا تلكَ الضربة، لما أشعلتم شمعتكم.

فلا تحرقونا بها.

*

 

ضربةُ واحدة تَكفي،

ليتجدد النهار.

 

اقرأ/ي أيضًا:

لا أحد يرى قدمه حين تسقط في الفراغ

دمٌ في العقل