28-مارس-2017

(Getty) ألبرتو مانغويل

مهارة الحكي عند ألبرتو مانغويل عندما يتكلم عن كتاب "دون كيخوته" تجعل من الكتب ذاكرة ومن الذاكرة حياة ومعاشًا ومن الحياة عبرةً. ففي الجزء الأول من ملحمة ميغيل دي ثربانتس يُلقي البطل الفارس دون كيخوته خطبتين يقارن فيهما بين مزايا الحروف ومزايا الأسلحة. كانت تلك معركة القرون الوسطى، تمايز العقل ضد القوة. يتذكَّر دون كيخوته أنه في الأيام الخوالي، الزمن السعيد والقرون السعيدة، كان الناس يجهلون مفردتي "لي" و"لك"، يقول لجمهوره المذهول: "كل شيء، كان سلامًا، كل شيء كان صداقة، كل شيء وئام، ولم يكن الفرسان الجوَّالون مطلوبين؛ لأن النزاع والظلم لم يكونا موجودين، لكن الآن في قروننا المقيتة، ليس ثمة ما أو من هو آمن؛ لذا بغية مواجهة الخُبث المتعاظم ظهر نظام الفرسان الجوّالين.. لم تعد الكلمات اللطيفة والأفكار الجميلة كافية، وأصبحت القوة مطلوبة الآن للدفاع عن العذارى وحماية الأرامل ومساعدة اليتامى والمحتاجين".

في كتابه "مدينة الكلمات"، يقترح مانغويل مقاربة جديدة لتعاملنا مع الكلمات التي يبدعها الحالمون

في كتابه "مدينة الكلمات" (دار الساقي 2016، ترجمة يزن الحاج)، يقترح مانغويل مقاربة جديدة لتعاملنا مع الكلمات التي يبدعها الحالمون والشعراء والروائيون وصناع الأفلام عبر الزمان والمكان، فربما كانت القصص التي نرويها تحمل مفاتيح سرية لفهم العالم. يصدِّر ألبرتو مانغويل فصلًا بقصيدة غنائية للشاعر الروماني هوراس يقول فيها: "عقيمًا كان زهو الزعيم والحكيم، لم يكن لديهما شاعرًا فماتا، عبثًا خطَّطا وعبثًا استُنزفا، لم يكن لديهما شاعرًا فهما ميتان". وعن اللغة، جسرنا للتواصل، يحدّثنا من خلال الكاتب ألفريد دوبلن، الذي سألوه عمّا يدفعه للكتابة فأجاب أنه يحجم عن طرح السؤال على نفسه، وأضاف: "لا يستهويني الكتاب المنتهي، بل الكتاب الذي في طور الكتابة، الكتاب القادم". الكتابة نفاذ من الحاضر إلى المستقبل، تدفُّق متواصل من اللغة يتيح للكلمات أن تصوغ الواقع الذي يكون في طور التشكُّل.

اقرأ/ي أيضًا: ألبرتو مانغويل في عالم مسحور

ودوبلن هذا مثير للاهتمام فعلًا، فقد نَسَب إلى نفسه منهجًا سمّاه "الدوبلينية" وكان ضابطًا في الجيش الألماني أثناء الحرب العالمية الأولى، قبل أن يعمل طبيبًا في الأحياء البرلينية الفقيرة، التي صوَّر ملامحها في رواياته، وكانت له شخصية متناقضة، فهو يهودي بروسي اعتنق الكاثوليكية، وهو اشتراكي راديكالي عارض الثورة البلشفية، وطبيب نفسي يحمل إجلالًا لسيغموند فرويد ويرفض مبادئ التحليل النفسي، مناصر للأدب ومتمرُّد على قواعده، اعتمد في أدبه على ميثولوجيا الكتب المقدسة، وكان موضوعه الشاغل الهوية المتغيّرة في القرن العشرين، وبطله المفضل هو أيوب البطل المعذَّب الساكن في أوجاع كل البشر.

هاجر دوبلن إلى فرنسا تحت وطأة حكم النازي وغادرها بعد 7 سنوات إلى الولايات المتحدة، وعانى عزلة شديدة وعجزًا عن إيجاد لغة مشتركة في أرض مضيّفيه لخّصها في ردّه على أحد الأصوات التي لم تغادر ألمانيا وعايرته بهجرته وبأنه من المستمتعين بأرائك وكراسي الهجرة الوثيرة، فردّ بقوله "أن ترحل من بلد إلى آخر هو أن تفقد ما تعرفه، كل ما كان قد غَذّاك، أن تكون في ارتحال دائم، وأن تعيش لسنوات كمتسوِّل بينما أنت لا تزال قويًا، لكنك تعيش في المنفى.. هذا ما تبدو عليه أريكتي وكرسيّ في المنفى".

ما جعل دوبلن على قيد الحياة كانت الكتابة فقد كان مسكونًا بغريزة الكتابة، على حدّ تعبيره، واستمر في الكتابة بلا انقطاع. كتب عن اللغة الألمانية المُعَذَّبة "المفعول بها"، مُبينًا حجم الإساءات التي لحقت بها تحت حكم "الرايخ". 
نُسيت أعمال دوبلن الأدبية باستثناء روايته عن شوارع برلين، والتي أسماها "برلين.. ميدان إلكسندر" (قام المخرج الألماني راينر فِرنر فاسبندر بتقديمها في فيلم تلفزيوني طويل)، ومانغويل يتأسّى على هذا النسيان لأن هذا الكاتب كان له إدراك لغوي كأداة تصوغ الواقع وتفهمه في آن واحد، وهذا إدراك ما زال صالحًا حتى اليوم.

القراءة هي الحرفة التي نتمكن عبرها من إعادة خلق الذاكرة عبر ترديدها وفهرستها

اللغة، بحسب دوبلن، لا تعيد ماضينا بل تصوِّره ليصل إلى جوهر المواقف التي تردّ على تساؤل: لم نحن معًا؟ لم نحن معًا ومعظم الوظائف البشرية لا يحتاج فيها المرء إلى آخرين، فهو يتنفس ويمشي ويأكل وينام وحده؟ لكن دوبلن -كما صرّح- رأى اللغة صيغة من حب الآخرين، الجسر المشترك، والقصص هي وسيلتنا لتسجيل التجربة عن العالم وعن أنفسنا وعن الآخرين. وحين يتذكر أيوب في معاناته الأيام التي كان نور الله فيها لا يزال يغمره، ويصرّح: "كنتُ عيونًا للعُمي وأرجلًا للعُرْج"، لا تكفيه الذاكرة المستعادة ويأمل أن يكون قادرًا على الكتابة كشهادة على إيمانه "ليت كلماتي الآن تُكتَب".

اقرأ/ي أيضًا: ألبرتو مانغويل.. في مكتبة بإيقاعات مجنونة

يقول مانغويل إن القَصّ يعلّمنا استخلاص ما تعلّمناه، بحيث نتمكّن عبر تنويعات النبرة والأسلوب والحكاية من ألا ننسى ما تعلّمناه.. القصص هي ذاكرتنا.. والمكتبات مخازن تلك الذاكرة، والقراءة هي الحرفة التي نتمكن عبرها من إعادة خلق تلك الذاكرة عبر ترديدها وفهرستها، وعبر عكسها على تجربتنا المُعاشة، وعبر السماح لما اعتبرته الأجيال السابقة ملائمًا للحفظ. القراءة عمل يخصّ الذاكرة، تتيح فيها القصص لنا أن نستمتع بتجارب الآخرين في الماضي كما لو كانت تجاربنا، بإمكان القصص شفاؤنا وتنويرنا وتبيان الطريق، وقبل أي شيء تذكّرنا بظروفنا، تخترق المظهر الزائف للأشياء وتجعلنا نعي الدواخل، تغذّي وعينا وما يمكّننا من معرفة أننا موجودون: ابتكار القصص، سرد القصص، كتابة القصص، قراءة القصص.. كلها فنون تتمّم بعضها بعضًا، نقل للذاكرة وإرشاد وتحذير.

بعد 16 عامًا من وفاة فرانز كافكا، أُسرت حبيبته ميلينا على يد النازي في معسكر الاعتقال حيث المعاناة الوحشية، فابتكر لها أحد الأصدقاء طريقة لجوء إلى الذاكرة تستحضر فيها الكتب التي كانت تقرؤها من زمن ومُختزنة في ذاكرتها. كان ذلك الحلّ لتفادي الشعور بأنه لم يعد هناك إلا الموت، وكان من بين ما استدعته قصة لمكسيم غوركي اسمها "وُلد إنسانًا" كانت ملاذًا آمنًا تلجأ إليه بعيدًا عن فظاعات الرعب اليومي، كان نقطة توازن فقط، لا يمنح أملًا وإنما يعينها على النجاة لأطول وقت ممكن، ويذكّرها بالنور في زمن الكارثة المظلمة. إنها قوة القصص.

الكلمات تفضي إلى وجود خاص بها بعيدًا عنّا، والمبدعون يصوغون الأشياء ويمنحونها هوية جوهرية، وهم قابعون في زوايا، ومنجرفون رغم ذلك مع بقية البشر. يعكس المبدعون العالم في تشظياته وتغيراته وتفاعلاته المستمرة، ويعكسون دواخل مجتمعاتهم المضطربة، ليصبحوا ما سمّاه الشاعر النيكاراغوي روبن داريو "قضبان إضاءة سماوية"، عبر التساؤل مرارًا وتكرارً "مَن نحن؟" وتقديم طيف إجابة في كلمات السؤال نفسه. وهذا ما يجعل المبدع شخصية مربكة في مجتمع يتوق -مهما كلّف الأمر- إلى الاستقرار والفاعلية، كي يحقق أقصى منفعة اقتصادية ممكنة.

الكلمات تفضي إلى وجود خاص بها بعيدًا عنّا، والمبدعون يصوغون الأشياء ويمنحونها هوية جوهرية

اقرأ/ي أيضًا: في مكتبة بورخيس

عام 1970، كان خورخي لويس بورخيس في أواخر حياته وخاب أمله بشأن العالم، وفي إحدى أمثولاته المتخيّلة وصف دور المبدع بقوله: "الشعراء رمز آخر ضمن القبيلة، يقرر صفّ ست أو سبع كلمات مُقَفَّاة، يعجز عن كبح جماح نفسه فيجهر بها صارخًا، واقفًا وسط دائرة مكوّنة من السحَرة، بينما باقي الناس يستلقون على الأرض، إن لم تبهجهم القصيدة فلا شيء، وإن أثّرت فيهم يبتعدون في هدوء ورهبة مقدسة، ويشعرون كأن الروح قد مسَّته". ووصف دوبلن الأمر بأنك "يمكن أن تكون محكومًا بالأدب إلى حد أن تكون منبوذًا".

عام 1945، عاد دوبلن من منفاه الأمريكي إلى ألمانيا، وخلال السنوات التالية ألقى عددًا من المحاضرات التي حاول وضع مواطنيه المهزومين بمواجهة صورة هويتهم المتشطية: "عليكم أن تقبعوا بين الأنقاض لوقت طويل وتدعوها تؤثّر فيكم، وتحسّوا بالألم والمصيبة"، وفي أعقاب ذلك أعلن الصحفيون عن تذمرهم من حديث ذلك الكاتب الألماني المشهور و"الضيف غير الدائم"، فردّ عليهم دوبلن: "لم تنصتوا للحديث. وحتى إن أنصتّم بآذانكم فإنكم لم تفهموه، ولن تفهموه أبدًا لأنكم لا ترغبون في هذا". ربما كان دوبلن يعرف أنه في أغلب الأحيان يصيب المبدعون لعنة كاساندرا، تلك الكاهنة اليونانية التي وهبها الإله أبوللو نعمة النبوءة بشرط ألا يصدقها أحد.

 

اقرأ/ي أيضًا:

السحر وامتلاك العالم

باتريك زوسكند.. انعزاليون في عالم عدائي