01-أغسطس-2016

"صباح اليوم التالي لمعركة واترلو"، رسمها جون هفيسد كلارك عام 1816

أقنع المصريون القدماء الإنسان بالنزول من على الشجرة، وتمكنوا من تدجين الحيوانات الأليفة مثل البقر والخرفان، والمتوحشة مثل القطط وسخروها لهم. لقد كانت فكرة التحكم في الطبيعة، وتحويلها من كائن متوحش يهددك إلى كائن تستغله، أو قابل للترويض، مثيرة وشاعرية.

 كانت فكرة التحكم في الطبيعة، وتحويلها من كائن متوحش يهددك إلى كائن تستغله، أو قابل للترويض، مثيرة وشاعرية

بعد مرور ردحًا من الزمن، ما غاب عن ذهن الفراعنة أن ما دفع البشرية للأمام بات يجذبها للخلف، بدأ الإنسان يتمايز عن الإنسان، ويمارس على أخيه التوحش الذي كانت تمارسه الطبيعة. في تلك المرحلة الانتقالية كان الانتماء إلى شيء معنوي نقلة بشرية هائلة، سواء كان هذا الشيء دينًا أو وطنًا أو فكرة، ولطالما نُظِر إلى المرتزقة الذين يقاتلون لمكاسبهم نظرة ازدراء، فكانت أي كلمة تدل على عدم الانتماء بمثابة سب وقذف، وبالتبعية انتقدت كل الغرائز التي تناقض هذا الانتماء، وكان هناك ولا يزال بقاياه بين الغرائز الأنانية التي لا تعترف إلا بالدم أكثر من الانتماء لشيء معنوي: الوطن الدين الإيديولوجيا.

إلى وقت قريب -ألف سنة ونيف- استطاعت الانتماءات المعنوية أن تنقل الأفراد سلوكيًا إلى تحقيق الأفضل، والمجتمعات إلى شكل أرقى من التعاون والتكتل، والدفاع عن أنفسهم في وجه غيرهم من بني البشر أو الطبيعة.

وكلما انحدرت البشرية، وخفتت النوازع والأخلاقيات التي تسببت في تحولهم من كائن يقبع فوق الشجرة يتأمل السماء ببساطة الأطفال، ويجري خلف فرائسه، وينكح الفتاة التي يصادفها عنوة بعد أن يقاتل رجلها، ويتحدث مع غيره بالسلاح والجدال والعراك، ظهر شخص أو طبقة بأفكار تجدد الدم في نوازعهم التي اكتسبوها حديثًا. تشهد البشرية في هذه الفترة تحولًا كبيرًا، فلم يعد أكبر خطر يهدد بقاءهم من الطبيعة، أو الفضاء، كلها باتت أخطار ممكنة التعامل معها، أو على الأقل لم تعد تشكل رعبًا غرائزيًا.

اقرأ/ي أيضًا: الحتمية الاقتصادية أم الصراع الطبقي؟

ما بات يشكل خطرًا على بقاء الإنسان هو الإنسان نفسه. ونتيجة لهذا التحول الدراماتيكي لسكان الكوكب العقلاء باتت النوازع المكتسبة الحديثة مثل الإيمان والتعلق بحالات معنوية مفارقة للأنانية الصرفة مثل الدين أو الوطن أو الإيديولوجيا عامل تخلف وتحلل.

يقدم بعض الفلاسفة والصوفيون والمحللون النفسيون لمحات عميقة حول الصفات المكتسبة حديثًا "منذ بضعة آلاف من السنين إلى مليوني سنة"، مثل نزعات التدين، والانتماء إلى المجموع، والمشاعر المرتبطة بالعائلة.

 كل أشكال الانتماء باختصار بات يغذيها الخوف والرغبات والأحلام المصطنعة

يتزوج الناس خوفًا من الوحدة، وينتمون فرارًا من العزلة، ويقبلون بحاكم غبي أبله مستبد عن طيب خاطر خوفًا من الفوضى، كل أشكال الانتماء باختصار بات يغذيها الخوف والرغبات والأحلام المصطنعة.

في كتاب "الدين والتحليل النفسي" يرى أريك فروم أحد رواد مدرسة التحليل النفسي والجيل الذي تلى فرويد، ويرى أن كل شخص متدين حتى وإن كان ملحدًا، وتحدث بعمق قلما يصل إليه محلل نفسي، أن هذا النزوع إلى الدين "الإيمان الأعمى بفكرة والالتزام بطقوس والنظر إلى نفسك معرفًا بالتزامك وإيمانك" هي صفة باتت مشتركة في كافة السلوك الإنساني المعاصر في المدنية الحديثة.

يأخذنا المتصوف الهندي أوشو إلى بعد آخر وهو يكرر في محاضرات كثيرة أن "الانحياز أعمى" مجرد أن تنحاز بشكل ديني إلى فكرة أو طائفة من الناس تتعطل خلايا في مخك عن التفكير المستقل، وتضرب روحك حجابًا عليك وعلى مشاركتك الفطرية مع الآخرين. وقد كان نيتشه أول من كشف بشكل فاضح تلك الغرائز التي تلعب في تشكيل الإنسان الحديث، واختزلها وهو محق إلى الساعين إلى القوة والضعفاء.

ثم جاء فرويد وقدم فتحًا، سلط فيه أول ضوء على الغرائز التي أقنع المصريون القدماء الإنسان بكبتها، وقدموا فى مقابل ذلك وعودًا حالمة. لقد تجاوزت البشرية الأنماط التي خلقها المجتمع، وباتت الأخلاقيات التقليدية خانقة، والالتزام ثقيل على الروح أكثر منه محررًا له، وغالبًا يلجأ إليه ضحايا الليبرالية الجديدة الذين يجبرونهم على الحياة مثل العبيد: عبيد للايكات الفيس بوك، أو القبول الاجتماعي، وتحقيق الثروة، والتحقق بالامتلاك، وتقدير الشهادات والجوائز والثروة أكثر من المشاعر والتحقق الإنساني وازدهار الكينونة الإنسانية.

ماذا فعلت لنا هذه الانتماءات؟ الألمان يكرهون المهاجرين خوفًا على بلدهم وثقافتهم، والمسلمون يشعرون بحرب كونية على دينهم وبلادهم. المسلمون يتقاتلون من أجل قضايا تاريخية، ويتبادلون الكراهية بينهم وبينهم وبينهم وبين غيرهم من الديانات للمحافظة على انتمائهم.

اقرأ/ي أيضًا: الصراع من أجل الاعتراف

يتزوج الناس خوفًا من الوحدة، وينتمون فرارًا من العزلة، ويقبلون بحاكم غبي أبله مستبد عن طيب خاطر خوفًا من الفوضى، كل أشكال الانتماء باختصار بات يغذيها الخوف والرغبات والأحلام المصطنعة. وتصل السخرية للمقاطعة الاجتماعية والجنسية والتي تتخفى في أشكال دبلوماسية تعبر عن الانفصام والانفصال.

كم يبدو أردوغان مثيرًا للشفقة وهو يعلن أن نصره على الانقلاب هو "نصر المؤمنين"، والسسيسي بابتسامته الغريبة وهو يقول للناس "مصر أم الدنيا" و"تحيا مصر"، وترامب "أمريكا فوق الجميع"، كل تلك الكلمات لا تعني سوى شيء واحد: المزيد من الحرب على ما هو غير أمريكي، الحرب على العلمانيين وغير المسلمين والمتدينين، الحرب على الشباب والأجيال والأفراد الذين يرفضون الخضوع لجهاز المخابرات.

كم يبدو أردوغان مثيرًا للشفقة وهو يعلن أن نصره على الانقلاب هو "نصر المؤمنين"، والسيسي بابتسامته الغريبة وهو يقول للناس "مصر أم الدنيا" و"تحيا مصر"، وترامب "أمريكا فوق الجميع"

المشكلة أن المشكلة باتت في الانتماء نفسه، وأي وسيلة لتجميله وتزيينه هي تزيد من قوته. والنتيجة مزيد من الاحتقان بين المسلمين والأقباط في مصر، والسنة والشيعة في العراق، والمهاجرين والألمان، والانجلوساكسون والسكان الأصليين في كل مكان تطؤه قدمهم، وفي النهاية بينك وبين نفسك، تكون ضدك، وتكبت اكتئابك، ثم تعتاده ثم تحبه وتتعلق به، تحب كراهيتك لكل ما هو "حقيقي" و"أصيل" و"طبيعي"، وتحب انفعالك وكراهيتك وقتلك لكل من يحبك ويحفز حقيقتك وأصالتك وطبيعتك.

كيف يحدث ذلك؟

يسلط كتاب "الذرات الاجتماعية" الضوء أيضًا على تغذية تلك الانتماءات للحروب الأهلية والصراعات القومية، فقد أثبتت التجارب المعملية أنه بمجرد أن تضع علامة تصنيف على وجودك يعمل عقلك بشكل مختلف، حينها يمكن أن تقتل وتغتصب وتنتهك حقوق وأعراض غيرك الذي وضعت عليه علامة انتماء مختلفة. هذه الطريقة تعمل على عدة مستويات منها مرئية وأخرى غير مرئية، إذا كنت منتميًا لجهاز الشرطة مثلا في دولة شمولية، فستتعامل مع المسجونين والناس من غير الشرطة باعتبارهم أدنى منك نوعيًا. إدراكك المنتمي سيجردهم من إنسانيتهم في داخلك، حينها يمكن أن تذهب إلى عملك وتقوم بتمزيق فستان معارضة والعبث بجسمها لإذلالها، ثم تعود إلى عائلتك وأصدقائك وتتعامل بطريقة إنسانية مختلفة.

ولو كنت في مجتمع طائفي كلبنان، يمكن في صورة الغضب أن تقوم بقتل العشرات، ثم تعود تستمع لموسيقى فيروز، وتحتسي الشمبانيا، إنهم ليسوا بشر طائفتك، إنهم لا يستحقون إلا ما فعلت لهم. ولو كنت مواطنًا في دولة استعمارية مثل أمريكا أو بريطانيا، وذهبت لبلد تحتلها، هكذا ستعامل أهلها، يمكن أن تنزل من طائرتك أطنان القنابل لتدمير السكن والبشر وأنت تستمع للموسيقى، أو تتأفف منتظرًا انتهاء الدورية لتعود إلى سريرك.

وما يفعله داعش هو الشكل البدائي للانتماء الديني والقومي، وهو ردة فعل على الشكل "الحضاري" للانتماء الحداثي، فمبررات الديمقراطية والعولمة يتم تدمير ثقافتك ومنظومتك الاقتصادية وأخلاقياتك وفرض نخب فاشلة وعميلة تستنزف روحك، وتبقيك مع القطيع، مدمرةً كل الاحتمالات فى أن تكون إنسانًا لك كرامتك وكبرياؤك وأحلامك. لقد قامت الولايات المتحدة والغرب بالتعاون مع أقذر النخب في الدول النامية ودعمت انقلابات دموية ولازالت، كل ذلك استدعى ظهور شكل مناقض وعنيف ودموي.

داعش ترى بشكل واضح لا لبس فيه، ولا سبيل إلى الدبلوماسية، أن كل ما هو غير منتمٍ لها "مسلم سني محافظ للغاية" يجب تدميره وانتهاكه، وكل البشر المختلفين يجب قتلهم واغتصاب بناتهم وسرقة أموالهم، بلغة أخرى داعش شكل بدائي للانتماء معاكس لأمريكا الشكل الحداثي للانتماء، وكلاهما وجهان لعملة واحدة.

هناك مستويات غير واضحة لتأثيرات الانتماء، وهي مؤذية لكينونتنا ومعطلة لإمكانياتنا كبشر، في الفهم والمشاركة والاستمتاع بالحياة، فشعورك بالانتماء لجنسك كرجل وامرأة يجعلك لا أخلاقيًا مع الجنس الآخر، فيمكن أن تكون "رجلا" مع أصدقائك، تحافظ على وعدك معهم، تتعامل معهم بإنسانية، تحكي لهم عن أسرارك، وتتشاطر معهم متع الحياة، ولكن عندما تظهر المرأة الصديقة أو الأخت أو الزوجة أو "العاهرة"، أو الحبيبة، تتغير تصرفاتك، إدراكك لهن كآخرين، كمختلفين عنك، يجعلك تتعامل معهم بدونية أكثر، فتسمح لنفسك بخيانة وعودك معهن، وتلقين الأكاذيب لبناتك وأخواتك لإبقائهن في "حظيرة الأخلاق"، وتكون محرضًا لأصدقائك ضدهم، شكل آخر، تشعر أن بعض حقوقهم مسلوبة طبيعيًا "أو بموجب قانون إلهي" مثل السهر واقتراف جرائم صغرى، والالتزام بواجبات البيت، وقضاء وقت أقل في أنشطة الحياة الممتعة "البعيدة عن العمل والواجبات المنزلية"، حتى وإن اقتصرت على الذهاب إلى صديقاتها، ويصل الأمر أن يشعر الرجل في هكذا ثقافة "تغذي فيها الانتماءات الجنسية" أن أي صديقة أو صديق أو نشاط خارج دائرة الالتزامات من زوجته مهددًا له.

والعكس صحيح، فتجد كلا الجنسين يمقتون بعضهم، وتصل عند البعض إلى حالة كراهية الجنس نفسه، وتنتشر في هكذا مجتمعات الشذوذ "وليس المثلية الطبيعية"، أي يختارون ما هو غير طبيعي فيهم بسبب انتماءاتهم تلك. وقد حلل ظاهرة الانتماء وتداعياتها في العلاقات الإنسانية أوشو في كتابه "الحميمية"، الذي خلص أن الحميمية شعور منعدم الآن في علاقات البشر ببعضها، وكتاب "الجنس ومعناه الإنساني"لكوستي بندلي.

الملكية والتعصب والاكتئاب والازدواجية والعزلة والاحتياج للآخرين هي مشاعر وأخلاقيات صديقة لإحساسك بالانتماء، أما الفرح والنشوة والاسترخاء والعشق والشغف هي أخلاقيات صديقة لإحساسك بعدم الانتماء، وأكبر أعداء يدمرون إحساسك بالانتماء المشاركة والتعاطف الإنساني والوحدة الخلاقة والحميمية مع جنس مختلف عن جنسك "امرأة-رجل" ذات انتماءات مختلفة "دين وطن لون عرق".

لا يتسع المقال لشرح طبيعة تلك الكلمات، والكلمات عامة المرتبطة بالمشاعر نالها الزيف والخداع كثيرًا. لكن في النهاية بتنا نعرف أنفسنا بانتماءاتنا، كل العوالم التي بداخلنا من مشاعر وأحلام وسلوكيات وخواطر مفضوحة ومكبوتة باتت تختزل في انتمائك الديني أو الوطني أو الإيديولوجي.

لذا كانت ثورة الخامس والعشرين من يناير بعد مرور آلاف السنين وبعد أن أدرك المصريون الخطأ الذي أوقعوا أنفسهم والبشرية فيه، إنها ثورة غير منتمية لدين أو لوطن أو لطبقة إنها ثورة 99% ضد أحلام ومخاوف ورغبات زرعها فيهم قسرًا الـ1% الذين يمتلكون المال والسلاح.

وفي اللحظة التي اختفى فيها من يملكون المال والسلاح، كل المحاولات لتخويفنا من الفوضى ومن جحيم الرب، لم تؤت أكلها، وكل المناشدات باسم كل الانتماءات الوطن والدين والعائلة والأخلاق لم تثمر. في اللحظة التي فشلت فيها السلطة نجح الإنسان للحظة أن يكون إنسانًا أصيلًا وحقيقيًا وطبيعيًا، بلغة أخرى نجح للحظات أن يكون لا منتميًا ومتطورًا عن الإنسان القديم الذي نزل من الشجرة بجرأته وشجاعته وتضامنه مع المستضعفين وانتشائه بالحياة، وحبه للجدعان أمثاله، وشعوره الواسع الذي يضم البشرية كلها، متخلصًا من كل آثار الشوفينية الناجمة عن الانتماءات.

اقرأ/ي أيضًا:
عن معنى الحياة
سلافوي جيجك.. الاستشفاء بجرعة لينينية