21-يناير-2020

(Getty) ستالين عام 1949

هنا ترجمة لمقال للكاتب البريطاني جوناثان واترلو المنشور في "Aeon | a world of ideas"، تتناول أحوال السخرية والفكاهة في الزمن الستاليني.


ترتبط كلمة الستالينية وما تشمله من فكر بالعديد من المفاهيم والمعاني التي تتبادر إلى الأذهان فوريًا حينما تقع هذه الكلمة على مسامعنا، وبكل تأكيد فإن "الفكاهة" ليست إحدى هذه المعاني. وتعتبر هذه الكلمة اليوم من مرادفات تسلط الدولة وقسوتها وفرض السيطرة الكاملة على تفاصيل الحياة دون ترك مجال للضحك أو أي شكل من أشكال مخالفة الرأي.

رغم كل هذا، فقد كشفت العديد من المذكرات والسير الذاتية الشخصية وحتى أرشيف الدولة نفسها أن الناس استمروا في إطلاق النكات والمزاح حول حياتهم البائسة، تلك الحياة التي أجبروا أن يعيشوها في ظل نظام معسكرات الاعتقال.

مع حلول ثمانينيات القرن الماضي، ازدادت شعبية النكات السياسية القادمة من الدول السوفييتية، حتى أشيع أن الرئيس الأمريكي رونالد ريغان كان ممن استمتعوا بجمع ورواية تلك الطرائف. أما السؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا قبل 50 عامًا، وخلال فترة حكم ستالين التي تميزت ببث الذعر والقسوة، كان المواطنون السوفييتيون العاديون يتبادلون النكات الساخرة من قادتهم ومن نظام الحكم السوفييتي؟ لماذا كانوا يفعلون ذلك رغم معرفتهم المسبقة بعواقبه، وخطورة اقتحام أمن الدولة لمنازلهم وانتزاعهم من أحضان عائلاتهم، انتزاعًا لا رجعة منه على الأغلب؟

مع حلول ثمانينيات القرن الماضي، ازدادت شعبية النكات السياسية القادمة من الدول السوفييتية

وتشير المعلومات المتوافرة بين أيدينا اليوم، إلى أن السخرية لم تقتصر على مجالس آمنة وحلقات مستترة حول طاولة الطعام، بل كانت منتشرة حتى على متن القطارات وبين أفواج الغرباء، بل وصل الأمر إلى ساحات المعامل، حيث كان من المفترض والمطلوب أن يظهر الجميع تفانيهم وتقديسهم للقضية السوفييتية العليا، لكن الناس رغم كل هذا أطلقوا النكات التي هزأت من النظام وحتى من ستالين شخصيًا.

اقرأ/ي أيضًا: مقبرة جماعية مجهولة تكشف حقائق مرعبة عن روسيا ستالين

يقدم عامل المخبز المدعو بوريس أورمان مثالًا تقليديًا عن هذه الظاهرة (السلوك). ففي خضم عام 1937، حينما كانت دوامة حملات القهر والقمع الستالينية تعيث فسادًا في البلاد، حكى أورمان هذه الطرفة (أنيكدوت) لزميله حينما كانا يشربان الشاي في مقهى المخبز: "كان ستالين يسبح، وفجأة شرع يغرق. رآه فلاح عابر فقفز من فوره وسحبه نحو بر الأمان. أمر ستالين من الفلاح أن يطلب المكافأة التي يتمناها. وحين أدرك الفلاح هوية الشخص الذي أنقذه، صرخ بأعلى صوته: "لا أريد شيئًا! كل ما أرجوه هو ألا تخبر أحدًا أنني أنقذتك!".

إن من شأن دعابة كهذه – وهو ما حدث بالفعل – أن تتسبب بسجن صاحبها 10 سنوات في معسكر الأشغال الشاقة، حيث يعمل المساجين دون انقطاع حتى الموت. لكن المفارقة تكمن في ازدياد رغبة الناس في إطلاق النكات وتشارك السخرية والضحك، كلما ازداد مستوى القمع المطبق عليهم، وعواقب السخرية التي تنتظرهم، لأن ذلك ساعدهم في تنفيس التوتر والتعايش مع الواقع السرمدي القاسي الذي لا يمكنهم تغييره.

بعيدًا عن كل الممارسات الوحشية، فقد كانت علاقة النظام مع الفكاهة أكثر تعقيدًا مما خيل لنا حين قرأنا الروائع السردية في رواية 1984 لجورج أورويل أو رواية أرخبيل غولاغ لألكسندر سولجنيتسن.

كانت علاقة البلشفيين مع السخرية السياسية بالغة التعقيد، فقد استخدموا السخرية سلاحًا في صراعهم الثوري ضد النظام القيصري عام 1917. وبعد استلامهم زمام الحكم، قررت الحكومة السوفييتية متيقظة أن استخدام السخرية سيقتصر على تمكين النظام الجديد وتلميع صورته. وبناء على ذلك بدأت المجلات الساخرة – مثل مجلة كروكوديل – تهاجم أعداء النظام المحليين والخارجيين على حد سواء. واعتبرت خفة الظل مقبولة فقط في حال خدمت أهداف الثورة. وقد تجسد ذلك في ختام خطاب أحد أعضاء مجلس الكتاب السوفييتيين عام 1934 حين قال: "إن وظيفة الكوميديا السوفييتية هي أن تقتل الأعداء بالضحك وتقوم درب الوفاء – بالضحك أيضًا - لكل من ينتمي إلى النظام الحاكم".

وبطبيعة الحال فقد استمتع الكثير من المواطنين السوفييت بالمنشورات الساخرة الخاضعة للقيود الحكومية، لكن الحقيقة مختلفة، والضحك لا يمكن السيطرة عليه كليًا من سلطة عليا. ففي صحبة الأصدقاء، وربما في لحظات يلفحها ندى الفودكا، وقفت القيود على شفير المستحيل، وتجرأ الناس على التقدم بضع خطوات ليسخروا من الأهداف العليا للمجتمع الإنتاجي، وتزامنها مع الفساد المستشري، ونفاق الوعود الوردية البراقة التي قدمها النظام عند مقارنتها بالواقع الرمادي الباهت والظروف الواقعية التي تواجه الناس العاديين خلال حياتهم اليومية.

منذ منتصف الثلاثينيات اعتبر النظام السوفييتي أن كل سخرية سياسية هي فيروس سام ينشر السموم في شرايين الوطن

لنأخذ على سبيل المثال، المزاح القاتل لميخائل فيديتوف. ميخائل كان موظفًا في منطقة فيرونيج، وشارك رأيه الساخر مرة فتلا طرفة حول جنون التجييش الصناعي الذي كان ستالين مهووسًا بتطبيقه. وجاءت الطرفة على الشكل التالي: "زار فلاح الزعيم البلشفي كالينين في موسكو ليستفسر منه عن سبب التسارع المبالغ به لعجلة التطوير والتحديث. طلب كالينين من الفلاح الاقتراب من النافذة وأشار إلى قطار عابر قائلًا: "انظر، إن كان لديك اليوم 12 قطارًا، فبعد 5 سنوات سيصبح لديك المئات. عاد الفلاح إلى مزرعته التعاونية وحين اجتمع رفاقه حوله ليعرفوا الجواب الشافي، نظر حوله بحثًا عن مثال ملهم كمثال القطار، فما كان منه إلا أن أشار نحو مقبرة وقال: "أترون عشرات القبور هناك؟ بعد 5 سنوات سيصبح لدينا الآلاف!".

اقرأ/ي أيضًا: انفوغرافيك: دمويون غيروا وجه التاريخ

يتميز هذا النوع من الطرائف بقدرته اللحظية على تجريد المخاوف من قدراتها القمعية، وجعلها مضحكة، وهو ما يساعد الناس على التخلص من أعباء حياتهم التي يعيشونها مع أقرانهم تحت الوطأة المخابراتية لما يسمى بـ"نعمة المفوضية الشعبية للشؤون الداخلية". ورغم هذا الأثر البسيط والإيجابي لمشاركة الطرائف، فقد ازداد بطش الدولة وتخوفها من السخرية خلال فترة الثلاثينيات. وازداد ذلك أكثر حين كثرت التكهنات حول حرب كبرى ستضرب أوروبا، مما جعل النظام المخابراتي والأمني يضاعف جهوده لمحو كل ما يرتبط بالمؤامرات وتخريب النهضة الصناعية في الاتحاد السوفييتي.

وبناء على ذلك، صارت كل طرفة تنتقد النظام السياسي السوفييتي ضربًا من الخيانة العظمى. ومنذ منتصف الثلاثينيات اعتبر النظام أن كل سخرية سياسية هي فيروس سام ينشر السموم في شرايين الوطن. وفقًا لنشرة تعميمية رسمية من آذار عام 1935، يعتبر تداول السخرية السياسية ضربًا من الإجرام، ويعادل هذا الجرم تسريب أسرار الدولة إلى الأعداء. واعتبرت هذه النكات من المحرمات، ووصل الخوف منها إلى عدم تسجيلها في محاضر المحاكم، حتى لا يساهم تسجيلها في نشر السم والعدوى. وحدهم الأتباع المخلصون سمح لهم بمعرفة محتوى هذه الجرائم الفكرية، وكان المتهمون يحاكمون دون أن تذكر تفاصيل كلامهم في محاضر الدعوى القضائية.

لم يتمكن المواطنون العاديون من استيعاب سرعة تفاقم الوضع، وجنون الارتياب الذي أصاب كل أواصر الدولة على حين غرة. ففي عام 1932 حين كانت السخرية غير محببة لكنها لم تكن جريمة بعد، شارك عامل السكك الحديدية بافل غادالوف طرفة بسيطة فحواها أن الفاشية والشيوعية فولة وانقسمت نصفين، ومر ذلك بسلام دون أن يتعرض لمحاسبة. لكن بعد 5 سنوات، اعتبر كلامه هذا نابعًا من خائن مستتر يعمل بأجندات خارجية خفية، وحكم عليه بالسجن 7 سنوات مع الأشغال الشاقة.

إن مفهوم العدالة ذات الأثر الرجعي ليس بغريب عن مجتمعاتنا المعاصرة. فقد تسببت رغبتنا العنيدة لجعل العالم مكانًا أفضل بتحويل تغريدة عمرها 10 سنوات على تويتر، إلى رأي مختص وحكم اجتماعي بالموت على كاتب هذه التغريدة. ربما يكون هذا بعيدًا عن الممارسات الشنيعة في أزمنة معسكرات الاعتقال، لكن المبدأ الأساسي المستتر تحت كليهما متشابه إلى حد كبير.

لقد أساء القادة السوفييت – كما يسيء كثير منا اليوم – فهم السخرية والطرائف، وتأثيرها الحقيقي على الناس. إن كتابة أو تلاوة النكات حول شيء ما لا يعني بالضرورة إهانة هذا الشيء أو تأييده. إن الأمر متعلق فحسب بمساعدة الناس على الإشارة إلى ما يؤرق مضاجعهم، والتأقلم مع صعوبات الحياة والمواقف المرعبة، ويتيح لهم ذلك عدم الشعور بالغباء أو العجز أو العزلة. وإن أعظم أخطاء النظام الستاليني وما يشبهه من أنظمة هو فشلهم في استيعاب الحقيقة التي تنص على أن انتشار الطرائف والسخرية يوفر حالة من الارتياح المؤقت، ويساعد على التخلص من ضغوطات الأيام المتعاقبة، وهو ما كان من شأنه أن يسهل على المواطنين متابعة حياتهم وتنفيذ ما أرادته الحكومات القمعية منهم، لو تركت لهم حرية السخرية لحافظ المقموعون على هدوءهم وتابعوا الحياة كالحملان الوديعة.

عندما نحكي نكتة معينة، فإننا نختبر الآراء أو الأفكار التي لسنا واثقين منها تمامًا. إن الطرائف محض محاولات تجريبية مرحة رغم كل ما تمثله من تخط لحدود المقبول والمسموح.

أعظم أخطاء النظام الستاليني الفشل في استيعاب أن انتشار الطرائف والسخرية يوفر حالة من الارتياح المؤقت

لم يفهم أغلبية المعتقلين في ثلاثينيات القرن الماضي ماهية جرمهم وخطورة سخريتهم، ولم يتقبلوا نعتهم بأعداء للوطن بسبب بضع جمل مضحكة. لأنهم في حالات عديدة انتقدوا الظروف المثيرة للتوتر والعصية على الفهم، حتى يذكروا أنفسهم بقدرتهم كبشر على رؤية الحقيقة خلف ستار البروباغاندا، ولمس الألم المرتبط بالواقع. وبناء على ذلك، فإن تبادل الأفكار الساخرة مهما كانت بسيطة، يعتبر أداة تمكين فردية يستطيع الإنسان استخدامها في هذا العالم البعيد عن المرونة، والمغمور بالأخبار الكاذبة. يستخدم الإنسان السخرية ويصرخ بأعلى صوته: "أنا أمزح، إذًا أنا موجود."

اقرأ/ي أيضًا: صورة الدكتاتور

نضحك في أحلك الأوقات، لا لأننا مؤمنون بقدرة الضحك على تغيير الواقع، بل لإن الضحك قادر على تغيير ماهية شعورنا حول هذا الواقع. لا يقصد الساخرون أمرًا محددًا بعينه، بل تحمل هذه الظاهرة معاني أعقد وأعمق من ذلك، تمامًا كما تشمل قصة السخرية السياسية في زمن ستالين مفاهيم ومعاني متشابكة لا يلخصها عنوان الصراع بين القمع والمناهضة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الضحك والثورة.. حين تصبح السخرية أداة نقد

النكتة السياسية في الأردن.. ملاذ للغلبانين