07-أبريل-2020

عقيل أحمد/ سوريا

لا أدري على نحو الدقة متى تم وصفي بالصحفي، لم أستسغ هذا الوصف، لأنني بالفعل لست صحفيًّا، ولمعرفتي أن الصحفي غير الكاتب في المهمة والأسلوب والرسالة، فإن خلا أحيانًا الكاتب من الرسالة وتحمُّل تبعات معينة، فإن الصحفي يجب ألا يخلو من الرسالة أي الهدف السامي من وراء عمله كله، مجملًا ومفصلًا، أما الكاتب فقد يكون أحيانًا مجرّدًا من الهدف، فهو يكتب أحيانًا لمجرد أنه يمارس هوايته ويحب مهنة الكتابة، هكذا أفعل أحيانًا، وبهذا وشبيهه يبوح الكتّاب أحيانًا في حواراتهم أو شهاداتهم الإبداعية، فكونك كاتبًا يجب أن تظل أصابعك عاملة وتكتب، حتى لو كانت كتاباتك لا طائل من ورائها، فالكتاب يكتبون يوميًّا، أو يمارسون عملهم يوميًّا، ولا أحد يدفعهم لذلك سوى أن الكتابة كفعل إذا لم تتحقق يوميًّا، وإن لم تظل الأفكار في "خضّ ورجّ" سيعاني الكاتب يومًا بعد يوم من عسر في الكتابة، وسيؤول إلى التوقف، لذلك قالت العرب: "ثلاثة تسهل بالعادة: الكتابة والخطابة والصلاة". وعليه، فالصحفي غير الكاتب من هذه الناحية.

عندما تحول قصة ريا وسكينة إلى مسرحية، اختلطت النواحي التراجيدية بالكوميدية، ووضعت المشاهدين بأجواء بعيدة عن مسرح الجريمة

ومن ناحية أخرى الكاتب بحكم عمله في الأخبار، جمعًا وتحليلًا، فإنه معني بلغة سهلة بسيطة متقشفة، لا يستطرد، ولا يزخرف، ولا يتأنق في الأسلوب، يلتزم بالحد المقبول من أساسيات الكتابة؛ الصحة اللغوية، واللفظ البسيط والتركيب المؤدي للمعنى. هذه هي لغة الصحفي، فلو حاول التأنق بألوان البلاغة لصار أسلوبه منفرًا غير عذب، إذ إن المطلوب منه ليس هذا، بل عليه تقديم المعنى بأقل لفظ ممكن وبطريقة سهلة. أما الكاتب فهو يتعمد التأنق والتجويد وتوظيف البلاغة وألوانها، ويحاول بكل قدرته الفنية أن يقول للمتلقي ها أنت أمام المعنى الذي تعرفه، ولكن بثوب جميل، ها أنت أمام ما يقوله الصحفي ولكن بطريقة أكثر متعة وأكثر تشويقًا وأقل ألمًا. نعم أقل ألمًا. لأنها أبعد عن المباشرة.

اقرأ/ي أيضًا: الإشهار في الحجر.. هل يستعيد الإنسان نفسه؟

تعالوا نرى حادثة ما بزاويتين: الصحفية والأدبية؛ ولنأخذ مثلًا قضية "ريا وسكينة"، تلك القضية التي شاعت في مصر، لامرأتين حقيقيتين كانتا تقتلان الضحية وتسلبان ما معها من مصاغ. هذا خبر صحفي مؤلم جدًا، ونتعاطف مع الضحية ونتوجع لما حل بها، ونتشبع بكل مشاعر الكره تجاه الجانيتين ريا وسكينة، ونسعى إلى أن يحل بهما الجزاء العادل.

هذا الحدث المؤلم، عندما تحول إلى مسرحية، اختلطت النواحي التراجيدية بالكوميدية، ووضعت المشاهدين بأجواء بعيدة عن مسرح الجريمة، أبعدت الجريمة الحقيقية من مسرح العرض، مع أنها لم تتلاشَ نهائيًّا، ولكن كان للعناصر المسرحية المختلفة وأداء الممثلين دور كبير في أننا أحببنا ريا وسكينة المسرحيتين وكرهنا ريا وسكينة المجرمتين. فليست مهمة الأدب البحث عن العدالة، ولكن بلا شك من مهامه التي لا يتنازل عنها هو تحقق المتعة، ولم يبق في ذهن المشاهد سوى تلك المواقف المضحكة، ويكاد يتذكر ما يشير إليه النص أو العرض من مآسٍ.

إن كل الأعمال الأدبية ذات سند واقعي صحفي، ولكنها تأخذ لغة الصحافة إلى ما هو أبعد من حدودها الجرمية والقانونية، وهذا لا يعني أن إحداهما لغة عليا والأخرى لغة دنيا، بل يعني أن لكل لغة طبيعة خاصة، فإذا دخل إحداهما على الأخرى أفسدت العمل حتمًا.

أنا بالفعل لست صحفيًّا، وربما كنت كاتبًا أصبت شيئًا من اللغة الأدبية هنا أو هناك بما تعلمته من صنوف البلاغة والأسلوب والتروي والتأنق. أما لغة الصحافة فأنا لا أعرفها، بل إنني فاشل فيها فشلًا ذريعًا. والآن سأبوح بسر، قد لا يعني أحدًا سواي، ولكنه ذو دلالة بالنسبة إليّ وأنا أراجع نفسي وأوصافها.

تعود الحادثة التي سأرويها الآن إلى ذلك الزمن الذي كنت فيه "تحريريًّا"، أي منتسبًا إلى حزب التحرير؛ فقد أنشأ الحزب منذ زمن بعيد قبل عام 2008، لا أدري بالضبط، موقعًا وأسماه "الناقد الإعلامي"، وأوكلني مع آخرين مهمة أن أكون إداريًّا فيه، وهذه مهمة أكبر من مهمة المشرف، إذ يكون من صلاحياتك أن تحذف الموقع كاملًا أو تغير الأبواب، أو ما شابه، ولكنني فشلت في إدارته، كان الحزب يتغيا أن يدربنا على العمل الصحفي، وكان يريد أن يضع لبنة لمؤسسة إعلامية صحفية؛ لأنه كان يرى الدولة "على مرمى حجر". لم أنجح في تلك المهمة وأخرجت منها، وأنا غير مبال فعلًا، فقد شعرت بالمهمة تثقلني وتقيدني وتزيد أعبائي، إذ لم تكن تناسبني، وقد جرّبت نفسي قبل ذلك وأنا في الحزب أيضًا عندما كنت عضوًا في "منتدى العقاب"، كأحد الذين ينشرون، ورفضت استلام أية مهمة إشرافية أو إدارية، حتى تلك الأخبار التي كنا نجمعها من الصحف والمواقع كنت أعيد نشرها كما هي، فيرشدنا المسؤولون إلى أنه لا بد من إبداء الرأي عليها، وكأنه يريدنا أن نتعلم التحليل السياسي والتحليل الاقتصادي والاستراتيجيات العسكرية وربطها بوجهة النظر الحزبية، كان يريدنا أن نكون حزبيين وسياسيين واقتصاديين ومخططين عسكريين وصحفيين. كنت أهرب من قسم الأخبار بعد ذلك وأنكبّ في قسم الأدب، وهناك كنت أنشر قصائدي. كنت أجد راحتي هناك أكثر.

يرى الحزب أن التفكير السياسي هو أعلى أنواع التفكير، أما الكاتب فيرى أن الأدب هو أعلى أنواع التفكير

لم يكن الحزب يشجع الأدب وقول الشعر، وإن كان ولا بد من ذلك فليكن في الخلافة وقضايا الأمة، مع أنه كان ينشر في أغلب أعداد مجلة "الوعي" قصيدة وأحيانًا قصيدتين تتسقان مع الأفكار الحزبية، ولذلك كان الحزب يرى أن التفكير السياسي هو أعلى أنواع التفكير، أما أنا فوجدت بحساسيتي التي لم يفسدها الحزب أن الأدب هو أعلى أنواع التفكير، وقدمت في إحدى المرات كلمة في اجتماعنا الشهري بهذا الخصوص، فتم مخالفتي بذلك، ولم أنجح في تمرير قناعتي التي لم أكن أرى أنها مخالفة لقناعة الحزب وأفكاره. لم ير الحزب في الأدب غير أنه هامشيّ، ويمكن الاستغناء عنه، وليس الأدب وحده بل الفنون الأخرى. وكان يحرّم "التمثيل" باعتباره داخلًا في مفهوم الكذب، وعلى الرغم من أنه أو أي فقيه من فقهائه، لم يحرّموا الموسيقى وكانوا يعتبرونها "مباحًا"، إلا أنه يجب الاهتمام بما هو أولى.

اقرأ/ي أيضًا: المؤامرة والعار في زمن كورونا.. نظريات أم فيروسات؟

لكل ذلك لم أكن في يوم من الأيام صحفيًا، ولن أكون. سألت مرة أحد الصحفيين الأدباء، لكونه عضو نقابة الصحفيين وعضو اتحاد الكتاب الفلسطينيين، على هامش مؤتمر اتحاد الكتاب الأخير، كيف يمكن للمرء أن يصبح عضوًا في نقابة الصحفيين؟ فأجابني بما أجاب به، فرأيت أن شروط العضوية لا تنطبق عليّ ولن تنطبق. وبما أن هذه الصفة لا يمكن لها أن تنطبق عليّ فإنني أستغرب جدا كيف تلصقها بي بعض المواقع الإلكترونية؟ ومن طريف هذا الوصف أنني أخذت أستعرض مع بناتي ساخرًا وممازحًا في جلسة ما الأوصاف التي تُطلق عليّ هنا وهناك، فأخذت أعدد: أكاديمي، كاتب، شاعر، ناقد، فقالت إحدى بناتي دون سابق إنذار: "وصحفي"، قالتها بطريقة مسرحية ساخرة، فدوت ضحكتنا على هذه النكتة العفوية. فهل يا ترى سيرحمني المحررون ويحررونني من هذا الوصف الذي حُمّلتُه غصبا عني، على الرغم من أنني لا أقوى عليه ولا يناسبني؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

في الحاجة إلى أخبار إيجابية

فيسبوك، كورونا، سوق الاعلانات... وأشياء أخرى