14-مارس-2019

صورة لضريح لينين (أ.ب)

من بين أدوار كثيرة وضعها العلم لنفسه، كطريقة جديدة ومستنيرة للتعامل مع الكون، فإنه حاول تحقيق فهم شامل للعالم وإنهاء التوجس من الطبيعة إلى الأبد. لكنه ضمن سلسلة طويلة من الجهود المتراكمة في هذا المسار، كان قد وصل إلى خلاصة ليس من السهل تقبلها، وهي أننا كبشر جزء "عادي" وغير مركزي، من الكون، بما يعني أننا لا نختلف عن أنواع كثيرة من السلالات الحيوانية، التي انقرضت أو قد تنقرض، من دون أن تترك أثرًا أبديًا على هذا الكوكب.

 دفع التوق إلى الخلود والخوف من الموت النهائي، نخبة من نجوم المجتمع العلمي في بريطانيا وأوروبا، أن يعكفوا على ابتكار مناهج ما ورائية، تشبه الشعوذة، من أجل إثبات وجود حياة بعد الموت

كانت هذه الخلاصة الداروينية الصادمة، متناقضة مع أحد الوعود الرئيسية التي قطعها العلم لطمأنة الإنسان، إذ إنها حرضت أحد أكبر المخاوف الأساسية عنده؛ أي الفناء، وتركته شاغلًا.

اقرأ/ي أيضًا: زيجمونت باومان.. نقد صلب لـ"الحب السائل"

في كتابه المثير للاهتمام  بعنوان "لجنة التخليد: العلم والسعي الغريب إلى خداع الموت" (The Immortalization Commission: Science and the Strange Quest to Cheat Death)، يلاحق المفكر البريطاني جون غراي النضال الإنساني الدؤوب لعدم تصديق هذه النتيجة، والطرق العديدة التي حاول الإنسان المعاصر من خلالها إعادة إحياء فكرة الخلود، تحت وطأة "نسيج لاهوتي علماني غامض".

لا يسعى غراي المعروف بحقده على كل أوتوبيا إنسانية، إلى التركيز على نقد التداخل بين الغيبي والعلمي في الحضارات الإنسانية الحديثة، وإنما إلى نقد ما يقول إنه محاولات علمانية، لردم الفراغ الذي تركه الدين شاغلًا بالنسبة لأسئلة إنسانية ملحة، مثل الموت والخلود. وبلغة أخرى، فإنه يسلط الضوء على سلسلة طويلة من خيبات الأمل، ومن الخطط الجنونية التي حاولت استجداء البقاء الأبدي للإنسان، أو كما يشير عنوان الكتاب، إلى خداع الموت. 

شعوذة نجوم الفكر الغربي

يقدم الكتاب الصادر في عام 2011، مثالين غير معروفين كثيرًا، لتجارب علمانية تعاملت مع مفهوم الخلود، وعبرا عن أمل "متطرف" بالتخلص من شبح الفناء. ترصد التجربة الأولى حوارات ومحاولات خاضتها شخصيات علمية بارزة في المجتمع الغربي، في العصرين الفيكتوري والإدواردي، حول إمكانية تأبيد حياة الإنسان.

يتطرق الكتاب مثلًا إلى تاريخ جمعية البحوث النفسية (SPR) التي تأسست عام 1882، وضمت أسماء بارزة من علماء نفس ومثقفين وفلاسفة، بما في ذلك ويليام جيمس، وهنري بيرجسون، وجون راسكن، وهنري سيدجويك. أما ما كان صادمًا، فأن نشاط هذه الجمعية التي ضمت أسماء من الأبرز في الفكر الغربي في تلك الحقبة، تركز على دراسة ظواهر ما ورائية، مثل التخاطر والأشباح والأرواح الشريرة. وبشكل عام، فقد انشغلت بمحاولة الإجابة على سؤال أساسي ومركزي، متعلق بوجود حياة بعد الموت.

 استمرت المفاهيم الخلاصية المأخوذة من الدين، في ممارسة "السلوان العلمي" لتعزي الإنسان على فنائه، فيما تم إضفاء القداسة على "الذات" بدلًا من الله، وتم التدشين إلى مرحلة من "عبادة التقدم"

كان سيدجويك، وهو فيلسوف نفعي معروف، ورئيس الجمعية الأول، مهتمًا بشكل خاص بهذا التساؤل، حيث عبر في أكثر من موضع عن عدم قناعته بالفناء النهائي للإنسان، فالعالم حسب آرائه يفقد أي معنى، إن لم يكن هناك "روح أبدية"، عطفًا على تخوفه من انهيار أي نظام أخلاقي في داخل الهوة التي تُركت مفتوحة بعد الدين.

وكما يجادل الكتاب، فقد دفع التوق إلى الخلود والخوف من الموت النهائي، نخبة من نجوم المجتمع العلمي في بريطانيا وأوروبا، أن يعكفوا على ابتكار مناهج ما ورائية، تشبه إلى حد كبير الشعوذة، من أجل إثبات وجود حياة أخرى بعد الموت. يضرب غراي مثالًا واضحًا على هذه المناهج، من خلال تقديم صورة تاريخية عن "الكتابة الآلية" (Automatic Writing). وهي طريقة للكتابة اللاواعية، يدعي أصحابها بأنهم لا يتحكمون بها ولا يدركونها، حيث تدفعهم قوى روحية لكتابتها. وقد كان رائجًا فهم هذا النوع من الرسائل، باعتباره تخاطرًا مع الأموات.

ما كان صادمًا، أن هذه الرسائل التي كان يتم الادعاء أنها قادمة من "الحياة الأخرى"، كانت تُناقش على نطاق واسع من قبل عشرات المفكرين البارزين، بما في ذلك الآباء المؤسسون للتحليل النفسي، سيغموند فرويد وكارل يونج، بالإضافة إلى أدباء مثل عزرا باوند، وألدوس هكسلي. وسرعان ما دخلت المرويات التي تعتمد على هذه القراءات، في المخيال العام عن الخلاص والحياة بعد الموت.

الشيوعيون و"بناء الله"

في نفس تلك الفترة، لكن من شرق أوروبا هذه المرة، يقدم غراي قصته الثانية. يعطي الكتاب صورة تاريخية عن الطريقة التي تم فيها التعامل مع وفاة لينين، سواء في بكائيات محبيه "المخلصين" أو من خلال سياسات "الخلود" الرسمية التي انتهجها الاتحاد السوفيتي، مبينًا الخط الضيق الذي يفصل الغيبي والمادي في تجربة علمانية أخرى، للإجابة على سؤال الموت. ومن اسم اللجنة السوفييتية التي كانت مخصصة لرعاية جسد القائد الشيوعي، بما في ذلك حماية جسده من التلف (للحفاظ على الأمل بإمكانية إعادة الحياة إليه في المستقبل) وتعزيز ذكراه وبناء قبره وتنظيم الزيارات إليه، إلخ، اقتبس غراي عنوان كتابه، مستعرضًا ما بدا وكأنه تدشين لمقام أو مزار ولي مقدس.

كان الشيوعيون وقتها يحاولون بلا جدوى قمع الحنين المتصاعد عند الناس تجاه الدين، بما في ذلك الطقوس الكنسية في الزواج والولادة والموت وغيرها. لكن هذا الحنين لم يكن مقتصرًا على الرعايا المؤمنين، أو على عامة الناس، فقد انتشرت مجموعة أفكار بين مثقفين شيوعيين معروفين، مقربين من الزعماء السوفييت، حول تأسيس نوع من الدين البديل، الذي يستلهم فكرة "بناء الله" من الفترة المبكرة للبلشفية.

كان هؤلاء المثقفون، من بينهم مكسيم غوركي المعروف بعلاقته مع أحد أشهر الأدباء الطوباويين هربرت جورج ويلز، يؤمنون بالقدرات الخارقة للإنسان، وبطاقته الفكرية التي يمكن لها أن تكون لا نهائية، وأن تتشابك مع الكون. وبالنسبة لهؤلاء، فإن مطلق الثورية تمثل في صناعة الإنسان الكامل، وتعزيز لا نهائيته، من خلال القضاء على الموت وتحقيق الخلود البيولوجي.

فشلت هذه المحاولة بطبيعة الحال، لكن غراي يشير بنوع من السخرية السوداء، إلى ملايين الناس الذين راحوا ضحية بطش آلة "التقدم" السوفييتية نفسها، في سعيها إلى تخليد البشرية.

اقرأ/ي أيضًا: التاريخ الدموي للسعادة.. الأوتوبيا الأقسى

يبين غراي بخفة في هذا الجزء، كيف تم استخدام هذا التقاطع غير المفهوم بين السحر والعلم، في الحد من خيبة الأمل، التي ترتبت على الاستنتاج الصارم بأنه لا توجد حياة أبدية. وكما أشار في غير موضع، فقد استمرت المفاهيم الخلاصية، المأخوذة من المسيحية واليهودية، في ممارسة هذا "السلوان العلمي"، فيما تم إضفاء القداسة على "الذات"، هذا المفهوم الغامض والمركزي، بدلًا من الله، وتم التدشين إلى مرحلة من "عبادة التقدم".

يبين غراي بخفة كيف تم استخدام  التقاطع غير المفهوم بين السحر والعلم، في الحد من خيبة الأمل الإنسانية، التي ترتبت على الاستنتاج الصارم بأنه لا توجد حياة أبدية

لكن ماذا عن محاولات العلم للوصول إلى الخلود الآن؟ يجيب غراي متحسرًا في خاتمة كتابه، بأن الآمال التي جعلت الشيوعيين يسعون إلى تخليد جسد لينين، واضعينه في ذلك الضريح المكعب، لم تنته بعد. فـ"خداع الشيخوخة من خلال اتباع نظام غذائي منخفض السعرات الحرارية، أو تحميل عقل الإنسان إلى جهاز كمبيوتر فائق، أو الهجرة إلى الفضاء الخارجي. إنه الشوق نفسه إلى الحياة الأبدية". فيما يتساءل أخيرًا: "ما الجميل في أن نفقد قدرتنا على الموت؟".

 

اقرأ/ي أيضًا:

أمبرتو إيكو.. تاريخ القبح أم تأريخ لسلطة الغرائبية؟

"أن ترى كدولة" لجيمس سكوت.. مجزرة التجانس وعقدته