18-نوفمبر-2016

من إحدى وقفات اهالي المغيبين في بيروت (أنور عمرو /أ.ف.ب)

في العام 2005 أنهت "مليونية" 14 آذار/مارس الوجود العسكري السوري على الأراضي اللبنانية، أو الاحتلال كما اصطلح "السياديون" على تسميته، وذلك بانسحاب الجيش "الشقيق" وآلياته مكرهًا إلى المقلب الآخر من الحدود على وقع الثورة التي قامت بعد اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري.

خروج العسكر وعتاده من "الباب" والذي أُمل أن يطوي صفحة الوصاية التي لم توفر شبّاكًا للتدخل بالشؤون اللبنانية الداخلية والخارجية، لم ينهِ ما كانت راكمته السنوات في سجلات التواجد العسكري على الحواجز وفي المكاتب الأمنية والمدنية، حيث تُخفى هويات رجال المخابرات المنتشرين بين الناس في هيئة عمال لورش البناء، نواطير بنايات، باعة كعك، ومارّة، بعد استغلال العمالة السورية "المظلومة" من قبل الاستخبارات الأسدية.

خروج الجيش السوري من لبنان لم يعالج ملف المغيبين قسرًا في سجون نظام الاسد

من الجراح التي لم تلتئم في العام 2005، ولم تكفِ السنوات لا التي سبقته أو أعقبته في مداواة جراح من بهم سقم: ملف المخفيين قسراً. بتعبير آخر المخطوفين اللبنانيين في السجون السورية؛ أولئك الذين لم يُعرف عن مصيرهم شيء. وعلى الرغم من مرور عقود على اعتقالهم.

كل النسوة اللواتي رابضن أمام الخيم وفيها ورفعن صور أزواجهن وأبنائهن، منتحبات ومنددات بالصمت "المزمن" الذي يصيب بعض ساسة البلاد إزاء ملف المخفيين خلال الحرب الأهلية والفترة التي تلتها، وإنكار بعضهم الآخر لوجود هؤلاء المعتقلين أصلًا في سجون النظام السوري، لم تخبُ أصواتهن وإن تسلل إليها الوهن، ولا تصميمهن على المطالبة بعودة أحبائهن بهُت مع الزمن.

أقرأ/ي أيضًا: لم تنتهِ الحرب الأهلية اللبنانية بعد

كثيرات بلغن من العمر ما أضعف قواهن على الوقوف في الاعتصامات التي نُفذت، لكنهن لم يخلفن موعدًا معها. حضرن من مناطق بعيدة، من الأقاصي والوسط، من البقاع والعاصمة، حملن قلوبًا متخمة بالألم، وصورًا بالأبيض والأسود تآكلها أصفر السنين.

تباشير رفع الوصاية حفزت قلوب ذوي المخفيين على إعادة إنتاج الأمل، على التفاؤل. هل يرحل العسكر وعتاده وترجع وعلى الطريق نفسها حافلات تعيد إلى الوطن من اقتيدوا منه إلى سجون الرأي (علماً أن كثرًا من الذين "تم إخفاءهم" ما أعلنوا موقفًا أو أشهروا ولاءً أو معارضة)، تلك كانت الأمنية التي صاغتها الألسن على شكل تساؤل، لم تشفها السنوات الأحدى عشرة بإجابة تبلسم الجراحات أو على الأقل تعدها بذلك.

عشرات الآباء والأمهات قضوا على طريق جلجلة الانتظار. وافتهم المنية بفعل الكبر وصمتت قلوبهم بعد أن نفد صبرها. إحدى أمهات المعتقلين السبعة عشر لفظت أنفاسها أمام خيمة اعتصام أهالي المخفيين بعد أن صدمتها سيارة. لم تكفها آلام الروح فجاءت عليها آلام الجسد المسحوق. وبالأمس رحل غازي عاد، عميد قضية المخطوفين وأحد أبرز الوجوه التي ناضلت حتى الرمق الأخير لكشف مصيرهم. هو أيضاً لم يسعفه العمر ولم تكفه السنوات ليحقق مطلبه ومطلب كل الأهالي وجميع اللبنانيين.

عديد من العائلات  اللبنانية تعيش على آمال ووعود بانتظار أبناء لا يزالون في أقبية سجون سوريا

أهالي المخطوفين الذين ودّعوه بكثير من الحزن بعد أن "خسروا عمودًا أساسيًّا ورزمزًا من رموز القضية"، وفق ما تقول رئيسة لجنة المفقودين والمخطوفين اللبنانيين وداد حلواني في اتصال مع "ألترا صوت"، مشيرة إلى أن "النضال سيستمر بالتأكيد بعد رحيل غازي، فتلك كانت وصيته". ولفتت أن على "كل من يحب غازي ويرثيه اليوم بعبارات التأبين أن يسعى إلى تنفيذ الحل الذي كنا توصلنا إليه معًا في هذا الملف ويقوم أولًا على جمع وحفظ العينات البيولوجية من أهالي المفقودين لأنها الهوية الوحيدة التي تربط الأهالي مع أبنائهم عند عودتهم أحياء أم رفات، وثانيًا إقرار اقتراح قانون يتعلق بالمفقودين والمخفيين قسرًا كان أوصل إلى مجلس النواب بعد مناقشته في لجنتي حقوق الإنسان والإدارة والعجل".

ومنذ 27 عاماً، قاد غازي عاد حركة نضاليّة لمعرفة مصير المعتقلين أطلقها مع فاضل الطيّار، شقيق المعتقل طانيوس الطيّار منذ عام 1978. سوّق حملة واسعة عبر وسائل الإعلام، مستندًا إلى تقرير خاصّ صادر عن منظّمة العفو الدوليّة حول التعذيب في السجون السوريّة ذكر فيه أسماء لبنانيين، كذلك استعان بملفات جمعها خلال عمله مع "مكتب التنسيق الوطني" في قصر بعبدا تفيد بوجود نحو 650 معتقلًا هناك، وتعرُض معلومات عن واقع وفظائع التعذيب الذي يتعرّضون له.

وكانت حلواني وجهت رسالة مفتوحة إلى رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، طالبته فيها بجعل قضية المغيبين قسرًا من "أولويات" العهد الجديد، آملة أن يتخذ الملف مساره إلى الانتهاء والإفراج عن هؤلاء الذين لا يزالوا في قلوب أهاليهم وأحبتهم.

أقرأ/ي أيضًا:

مارلين عائدة إلى تل الزعتر

ماذا تعلمنا من جيل الحرب اللبنانية؟