18-مايو-2022
(Getty) فرز الأصوات في بيروت

(Getty) فرز الأصوات في بيروت

شكلت نتائج الانتخابات النيابية اللبنانية مفاجأة كبرى لكل المراقبين بحسب ظني. ذلك أن الغضب والاعتراض الصاخب اللذان حملا كتلة نيابية كبرى، بمقاييس الكتل النيابية اللبنانية، إلى البرلمان، لم يكن ممكنًا لأي كان قياسهما على الوجه السياسي الصحيح.

الجزء اللبناني الذي اختار وانتخب الكتلة المستجدة في الحياة السياسية اللبنانية يحثّ سيره نحو طلاق بائن مع التركيبة اللبنانية الموروثة

والحق إن هذا الانتصار اللبناني لا يمكن اعتباره سياسيًا حتى اللحظة، إنه انتصار تأسيسي. معنى العبارة، أن الجزء اللبناني الذي اختار وانتخب هذه الكتلة المستجدة في الحياة السياسية اللبنانية يحث سيره نحو طلاق بائن مع التركيبة اللبنانية الموروثة، والتي شكلت على الدوام أسباب بقاء البلد وأسباب إعاقة تقدمه في الوقت نفسه.

لأول مرة في لبنان تصل كتلة، وازنة عابرة للطوائف، إلى البرلمان من دون برامج سياسية فعلية، جل خطابها يتركز على استحالة استمرار الصيغة المتعثرة منذ ولادة لبنان، والفيصل في انتمائها وتماسكها يتمثل بالسعي لإخراج الجماعات اللبنانية الطائفية والمناطقية المتحكمة بمصير البلد منذ ولادته، من دائرة التأثير السياسي والقانوني على حد سواء. على هذا، ولهذه الأسباب الآنفة، لم يكن مجديًا مطالبة البعض، وأنا منهم، هذه الكتلة العابرة للمناطق اللبنانية المتناحرة، بتقديم برامج سياسية واضحة وخطط مدروسة، لإنقاذ البلد من الانهيار الذي يعيش فصوله الخطيرة منذ سنوات. ذلك أن أي برنامج سياسي مهما كان مدروسًا ومفكرًا في تفاصيله، لا يرقى لما حاولت هذه الكتلة إعلانه من دون نجاح كبير في الإيضاح: "كلن يعني كلن" لم تكن ذات معنى سياسي في لحظة إطلاقها بقدر ما كانت إعلان انفصال حاسم عن القوى التي تتحكم بالبلد وتنتج نخبته الحاكمة على المستويات كافة. "كلن يعني كلن" هي بطاقة انتماء متجددة للوطن اللبناني الذي يشهد ترنح صيغته الموروثة ويواجه مخاضًا عسيرًا لولادة صيغته الجديدة التي قد تولد من رحم هذه القوى العابرة لجماعاتها.

في الأثناء، وربما في غضون السنوات القليلة المقبلة من عمر البرلمان الجديد، ستضطر هذه الكتلة لإجراء تسويات مع قوى هي في أصل تكوينها موروثة من الصيغة المترنحة، ذلك أن تدبير الشؤون السياسية يفترض تفريق الخطير عن الأخطر، والقابل للتعايش معه على ذلك الذي يستحيل التعايش معه. وبذلك يمكن القول إن القوى الطائفية التي ما زالت تشكل الأغلبية الساحقة في البرلمان، ومنها تتحدر انتماءات معظم اللبنانيين، ليست كلها على المستوى نفسه من الخطورة. فثمة قوى تنشد تسويات مع القوى الأخرى، من دونها لن يخرج البلد من أزماته. وثمة قوى أخرى لا تكف عن اعتماد سياسة التغلب والإكراه، وتطمح لتحقيق انتصارات حاسمة على القوى الأخرى سواء كانت طائفية أم "وطنية"، ومحاولة هزيمتها على وجه نهائي ومحسوم.

الأرجح أن هذه الكتلة الجديدة العابرة لجماعاتها لن تدّخر جهدًا في محاولة تصدّر التفكير في معنى البلد وطبيعة المواطنة فيه، وفي التحديات المفروضة عليه بعد ضمور أدواره الخارجية، والاكتفاء بما بقي منها وهو لا يتعدى تكليف كتلة طائفية كبرى بلعب دور كلاب الحراسة لمشاريع إقليمية إمبريالية خاسرة وواهمة. والأرجح أيضًا، أن هذه الكتلة ستطبع صورة البلد في السنوات المقبلة، وقد تنجح في صناعة مستقبل له، يعز علينا تبين ملامحه اليوم.