22-أغسطس-2021

مرفأ طرابلس (Getty)

سواء كنا صحافيين أو كتّابًا، السؤال الجوهري اليوم: لماذا نكتب؟ الصحافيون يكتبون لتعريف الناس بما يجري، لتبني على معرفتها تلك مشاريعها للغد. والكتّاب يكتبون لأسباب متنوعة، تتقاطع كلها في سعيهم لتعريف الآخرين بأنفسهم، همومهم، مشاعرهم، شطحاتهم، وأفكارهم وفلسفتهم.

ما الذي يموت في الكاتب حين يصبح القارئ عاجزًا عن أداء دوره؟ تموت نفسه، ليس أقل من ذلك

هؤلاء الآخرون ضروريون جدًا جدًا. لا تستقيم كتابة بدونهم. وهؤلاء الآخرون موصوفون. فهم ليسوا عددًا تائهًا في صحراء. إنهم من يريد الكاتب أن يحصل منهم على رد فعل: إعجاب، نقاش، اعتراض، شتيمة. أي رد فعل مرغوب ومطلوب. القارئ دائمًا هو شخص له مستقبل، وحين ينعدم مستقبل القارئ أو يصبح معروفًا ومعاينًا، تنعدم الحاجة إلى القراءة، وتبور الكتابة في مهدها. تبقى أسيرة ذكريات بعيدة في أذهان الكتّاب. حتى هم أنفسهم يعجزون عن استعادتها في غياب القارئ.

اقرأ/ي أيضًا: أبو جهاد الفرنسي

القارئ ليس شخصًا له مستقبل وحسب. إنه المستقبل بحد ذاته. الآلة التي يمكنها بالمعرفة المتحصلة من التجربة والتعلم أن تغير معالم الاجتماع، ببطء وثبات.

ما الذي يموت في الكاتب حين يصبح القارئ عاجزًا عن أداء دوره؟ تموت نفسه، ليس أقل من ذلك. أن أستعد للكتابة اليوم، وأنا أكتب وأفكر في بلدي لبنان، لا يسعني أن أرثي البلد وأعلن موته بعد طول احتضار. هذه حيلة يعتمدها الكتاب حين تحاصرهم العتمة من كل جانب. لكنها سرعان ما تنكشف على خواء عميم. الذي أرثيه حقًا هو الكتابة. صفتي التي تعرّفني، والتي أتواصل من خلالها بالآخرين. هل تموت الكتابة؟ طبعًا تموت. ما الذي أستطيع اقتراحه لأنير شمعة في عتمة ليل لبنان؟ ما الذي يمكنني أن أقوله وقد يؤدي إلى خلاص ضئيل؟ لشخص، لشهر من حياة شخص، ليوم، لساعة، لثانية. لا شيء يمكنني قوله. أنا مثل قارئي في هذه اللحظة، أخوض في العتم، وأعرف أن أوشفيتز جديدًا يجرنا كلنا في ليله الأعمى إلى النسيان. لم يكن أوشفيتز، وما شابهه في تاريخ البشرية، مجرد محرقة غاز. الأرجح أن محرقة الغاز وأهوالها، هي التي سمحت للناجين من الحرب العالمية الثانية أن يصنعوا ذكرى للضحايا. أوشفيتز هي إخراج شعب من أطواره ووظائفه وأنسابه، وسوقه إلى ما يشبه مزارع الدواجن الحديثة، حيث لا مستقبل سوى الموت. وأحيانًا يكون ما يسبّب الموت هو فائض الناس في مساحة صغيرة، وصعوبة تصريفهم -تمويتهم بالوسائل المعتادة. المحرقة في هذه الحال ليست سوى تصعيد في السرعة.

هؤلاء الذين حشروا في بلد كلبنان، وهم شعب كامل، يستعدون لدخول النسيان. حين يتسنى لأي منهم أن يتكلم، لا يقول شيئًا، يصرخ وحسب

هؤلاء الذين حشروا في بلد كلبنان، وهم شعب كامل، يستعدون لدخول النسيان. حين يتسنى لأي منهم أن يتكلم، لا يقول شيئًا، يصرخ وحسب. الصرخة التي لا يريد صاحبها أن يستنجد بأحد، بل ليقول بملء فمه وقلبه: إنني أموت.

اقرأ/ي أيضًا: بلادي.. بلادي

معظم الذين يتسنى لهم إطلاق هذه الصرخة في لبنان اليوم، يقولون قولا آخر: ساعدونا لا لننجو، بل لنميت معنا من كان سببًا في تمويتنا. هذا ليس ثأرًا يا أهلي. هذه عدالة. ما دام البلد منذورًا للموت، فيجدر ألا ينجو منه من كان سببًا في جعله كبشًا. مع ذلك، أخشى أن العدالة لن تتحقق. أخشى أننا، نحن الذين حسبنا أنفسنا من الناجين من هذا الجحيم، لا نملك حكايات وقصص كافية يمكن أن نرويها عن الذين غيّبوا في هذا النفق المظلم. لقد أنفقنا وقتنا الذي أتيح لنا في محاولة إصلاح ما يمكن إصلاحه. وها نحن اليوم نكتشف أننا بتنا عاجزين عن إنقاذ أي شيء، لكننا أيضا نبدو عاجزين عن إنزال القصاص بمن تسبب بهذه المحرقة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مجرد تعب

محنة الهوية اللبنانية وأثرها الذي لا يمحى