02-يناير-2016

الشيخ علي جمعة

هي حكمتك يا رب بلا شك، ونحن جميعًا أسباب لنفاذ قضائك، تعز من تشاء، وتذلّ من تشاء، وترتفع بمن تريد إلى مراتب القديسين، لا تكرمه بل تمنحه فرصة للعودة إلى الطريق القويم، تنفحه من العلم والمناصب والقنوات الفضائية وأرصدة البنوك ما لا يستحق لأجل أن يعمل لله، ويغسل ذنوبه، لأنك غفور رحيم، وحنون على عبادك مهما فجروا وأثموا، لكن أكثرهم لا يعلمون.

علي جمعة نزل من مرتبة "مفتي مصر" إلى رتبة "الضيف الدوار" على القنوات الخاصة، ولكي يظل مطلوبًا لابد أن تكون عنده مادة مثيرة وممتعة ومتجددة 

أنت وحدك صاحب المصير، والقضاء والقدر، والنجاح والفشل، والبداية والنهاية، وأنت الذي اخترت موعد كل شيء، ووزّعت الرزق بالقسطاس، وسخرتنا له جميعًا، هي إرادتك ولا رادّ لها، اللهم لا اعتراض.. كلها أسئلة وخواطر إذا كانت متجاوزة فهي اجتهاد، ولو كان بها مسّ شيطاني، وسوء ظن.. فلتكن دلالًا من مسلم عاص.

لماذا تصر -يا رب- على منح علي جمعة من عطاياك ونفحاتك الكريمة رغم أنه "صانع الفتن" الأول في دينك؟

الرجل نزل من مرتبة "مفتي مصر" إلى رتبة "الضيف الدوَّار" على القنوات الخاصة، ولكي يظلّ دوَّارًا ومطلوبًا لا بد أن تكون عنده مادة مثيرة وممتعة ومتجددة يوميًا وقادرة على هز "تويتر" ليلة كاملة حتى ساعة بث برنامجه غدًا لكي يكسب حرب "الفضائيات الدينية" التي دخلها منافسًا لعمرو خالد ومعز مسعود ومصطفى حسني.

بمَ يقابل الله غدًا؟.. سيقول احتفالًا بمولد النبي إن محمدًا -عليه الصلاة والسلام- من مواليد برج الحمل، ويضيف: "بحثت ووجدت أنه ولد يوم 22 أبريل تحديدًا".

فتوى بفتوى.. الرسول من برج القوس

هل يدخل علي جمعة بهذا الكلام في باب التنجيم؟.. الإجابة تحمل اختلافًا فقهيًا، وهناك ما هو أكثر سخونة فيما يقوله "المفتي السابق"، ويحمل أدلة كذبه داخله، وهو إن رجل الحمل -وفقًا لمراصد فلكية- أناني، وغير صبور، وعنيد، ومتسرع، وكئيب، وفاقد للحيوية والإيجابية وكسول، لا يحمل أجندة أهداف، وتحقيق الإنجازات ليس بين أهدافه.

قال علي جمعة: بحثت في صفات برج الحمل، ووجدت الرسول يحمل كثيرًا منها، هذا البرج مناسب للنبي محمد.

هل يقصد "جمعة" إن الرسول محمد -المنزّه عن كل سوء- أناني ومتسرع وكئيب؟

ليس إرهابًا لرجل دين أن تسأله هذا السؤال.. لكن صفات النبيّ -كما ثبت في السيرة النبوية- ليست كذلك، لقد صبر متحمّلاً عذاب قريش، كان يصلي أمام الكعبة، وجاء عقبة بن أبي معيط وخنقه بشدة في بدايات الدعوة فلم يتراجع، وقدم نفسه فداء لدين وأمة كان يراها حين كان لا أحد يرى أي شيء.

وتروي عائشة، رضي الله عنها، أنها حين سألته: هل أتى عليك يوم كان أشدّ من يوم أحد؟.. قال: "لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشدّ ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على بن عبد يا ليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي".

هل نزيد؟.. بحسبة مفتي مصر الفلكية، فإن الرسول محمد أقرب إلى برج القوس من الحمل، خاصة أن رجل "القوس" طَموح وقيادي (محمد بنى ملكًا ودينًا امتدّ وسيعيش آلاف السنين من بعده)، ويحب السفر (الغزوات والهجرة)، ومتفائل ومحظوظ (النبوة والملك)، ويكره الارتباط لكنه إذا أحب كان خير حبيب بعطائه الذي لا ينقطع وفي الزواج يكون زوجًا مثاليًا (راجع سيرته العطرة مع نسائه)، وأب ودود وكريم مع الأطفال (قصة عُمير الذي ماتت قطته، وغناها وائل جسار في "قلبك حنين يا نبي").

تكفير علي جمعة

السؤال الآن.. لماذا يقول على جمعة ما إذا قاله غيره لخرجت جموع السلفيين ومشايخ الأزهر تكفره؟

الرجل يتاجر مع الله ولكن بطريقته، يتلقى المنح الربانية بمزيد من العطاء، يقدم معلومات صادمة ومواقف مثيرة كأنه صحفي بجريدة فضائح، مخترقًا مجموعة ثوابت يؤمن بها المصريون، بفتاوى «ساخنة» تشنق «حالة الإيمان العامة» بأمعاء «آخر شاب انتحر ملحدًا». حتى الشباب الذين يقترفون ذنوبًا تأخذهم إلى النار، ولهم باع في ارتكاب خطايا تضعهم في جهنم، رفضوا ما يقوله علي جمعة.

هل النبي "أبو عيون جريئة"؟

يؤسس علي جمعة لمصطلح ليس جديدًا لكنه تائه وغامض. إنه "إسلام السوق".

يضع المفتي السابق ثوابته ومبادئه وقيمه وحقيقته ويدعو إليه دون أن يدري، هو نوع من الإسلام يكسب الجمهور على الشاشات، ولا يخسر النبي، يقرِّب الدين من الناس ولا يقرب الناس من الدين (والفرق يشبه الفرق بين الجنة والنار)، يجعله لعبًا وهزارًا وضحكًا وغناء ولهوًا وعبثًا كالواقع المنحط الذي نعيشه. أن تقول للناس عودوا إلى أخلاق النبي فهذا صعب وعسير، أما أن تقول لهم: أحبوا النبي دون أن تعودوا إلى أخلاقه، فهذا سهل وجميل، وكلنا نحبه.

يفرض إسلام السوق على "جمعة" أن يرد على من يسبّ النبي قائلًا: "ده سافل ابن سافل".. حين ردّد هذه الشتائم على الهواء كان لديه مرجع يتبع سنته، وهو الشارع الذي يتخذ من الشتيمة بالأب والأم مذهبًا وعقيدة وسنة.

ما يفعله "مفتي مصر" ببساطة أنه ينزل بالدين إلى الشارع بكل حقارته وانحطاطه، لا يطلب من الناس أن "يصعدوا" إلى مراتب الدين والأولياء والأنبياء والقديسين.

من بين ما يقوله جمعة أيضًا إن عبد الحليم حافظ غنى "أبو عيون جريئة" للنبي، عليه الصلاة والسلام، ويؤكد -في تصريحات تليفزيونية قديمة- أن "العندليب كان مؤمنًا وبيحب النبي قوي وعمل له الأغنية دي مع عبد الوهاب".

إسلام السوق يحرض علي جمعة على فتاوى يمكن أن تدخل في باب "مصائب قوم عند قوم فوائد"، فالذين أخذوا فتوى من رجل دين لا يحاسبون عليها، إنما يؤخذ هو بذنوبهم، وما قاله المفتي السابق كثير.

قال إن «السجائر» طاهرة والحشيش طاهر والأفيون طاهر، ولا ينقضون الوضوء، ويجوز الصلاة بهما، وطلب من الرجل الاتصال بزوجته قبل وصول البيت: «قل لها إنك جاى، افرض معها رجل؟ أعطه فرصة يمشي».

أباح الإفطار للمصيفين في رمضان، أكَّد إن «أبو الهول» هو سيدنا إدريس، عليه السلام، وشجع سياحة العرى: «أن تتعرى سائحة.. هذا حلال».

ثم جلس ومدّ قدميه، مستندًا إلى ظهر الكرسى الذي يجلس عليه، وأفتى: «مزيكا بيتهوفن تدعو إلى الإيمان بالله».

وهم إسلام السوق في مصر

فتاوى علي جمعة -حتى لو صحّت- لا تقترب من خط دار الإفتاء التي كان يتولى أعلى مناصبها.

يلقي علي جمعة قنابله ويرحل في صمت، لا يطلب من أحد أن يصدقه، يطلب -فقط- من الجميع أن ينتظر الحلقة القادمة 

يصدق من يصدق، ولا يصدق من لا يريد، المهم أن تحمل الحلقة جديدًا يرجّ عرش "فيسبوك وتويتر". يلقي علي جمعة قنابله ويرحل في صمت، لا يطلب من أحد أن يصدقه، يطلب -فقط- من الجميع أن ينتظر الحلقة القادمة لأنه سيدوس على لغم "سينفجر ويقلب الدنيا".

هل تختلف مع "إسلام السوق"؟

السؤال بصيغة أدق.. متى تختلف معه وترفضه؟.. حين ترى فيه ما لا يناسبك، إنما أعداء علي جمعة رفضوه من بابه، اعتبروا الشيخ العابر للعصور رجلًا يريد أن يسرق البيضة والجمل، يسب ويشتم وينزل بالإسلام إلى مساحات مشبوهة لا تليق به، والأسوأ أنها بعيدة عن صحيح الدين. هذا ميزان بعضهم.

علي جمعة يرى أنه ناجح، وتاجر شاطر مع الله، ولا يشك في خسة تجارته وبيعه فلا يزال حاضرا بقوة على الشاشات، لا شيء يمحوه من الخريطة -الدينية أو البرامجية- وينتظر إنجازات جديدة بعد نجاحه في مهمة التليفزيون الصعبة: قنوات أخرى، وحسابات في بنوك جديدة، وجمهورًا أوسع ينتظر حلقاته يوميًا ويحب أن يسمع له ويشقى بما يقوله!

اقرأ/ي أيضًا: 

عسكر مصر والعربي الجديد..خوف الطغاة من الأغنيات

21 رقما مرعبا من مصر