12-فبراير-2020

من وقفة احتجاجية ضد العنصرية (تعبيرية/ أ.ف.ب)

تلقى ياسين جبر، شاب مصري يقيم في ألمانيًا، ما وصفها بأسوء رسالة رفض، جاء فيها: "لا نريد عربًا"، تلقاها من شركة هندسة معمارية ألمانية، كان قد راسلها طلبًا للعمل. لكن ياسين جبر ليس وحده أمام هذه العنصرية من أرباب العمل في أوروبا، ولا قصته نموذج نادر، فبعد ما حدث معه بوقت قصيرة، تلقى شاب ألماني المولد من أصول أفريقية، رسالة من إحدى العلامات التجارية المعروفة التي راسلها للعمل، جاء فيها: "لا نريد سودًا".

تلقى لاندو جواو وهو شاب من أصول أفريقية، رسالة رفض من عمل تقدم إليه في ألمانيا جاء فيها: "السود يسرقون ويعكرون مناخ العمل"

تلقي القصتان وغيرهما، الضوءَ على ظاهرة يغلب الظن بانتفاء وجودها بهذا الشكل المؤسساتي في دولة كألمانيا، بينما النشطاء الحقوقيون وشبكات مناهضة العنصرية في أوروبا، يكشفون الصورة القاتمة للواقع.

اقرأ/ي أيضًا: العنصرية ورهاب الأجانب.. قصة جديدة من الحضيض الأوروبي

العنصرية في أماكن العمل بأوروبا

منتصف شهر كانون الثاني/يناير الماضي، نشر ياسين جبر صورة الرسالة التي تلقاها من الشركة على صفحته بفيسبوك، معلقًا عليها بقوله: "أسوء رسالة رفض يمكن أن تتلقاها". انتشرت تدوينة جبر على مواقع التواصل الاجتماعي، مثيرةً موجة استنكارٍ كبيرة لم يختلف أصحابها على التنديد بهذا التمييز، كما إبداء التعاطف مع الشاب المصري.

من جانبها، أرجعت شركة الهندسة المعمارية التي أرسلت رسالة الرفض، ما حدث إلى "سوء الفهم"، زاعمة أن ردها "تم التلاعب به وإخراجه عن سياقه"، دون توضيح المزيد، أو تقديم اعتذارات.

وأصدرت شركة "GKK+Architekten" الدولية للهندسة المعمارية، والمسؤولة عن ذلك الرد، بيانًا قالت فيه إنها "تحتفي بتعددية فريق عملها، وتعتبرها حجر الزاوية في النجاح الذي تحققه". فيما أفاد موقع دويتش فيله الألماني، في تقرير له، أن رفض تشغيل جبر، يعود "لضعف مؤهلاته للمنصب الذي قدم الطلب عليه"، وأن الشركة المذكورة قدمت اعتذارًا للشاب المصري.

"ما حدث مع ياسين جبر، والبريد الإلكتروني الذي وصله، وإن قيل إنه بالخطأ، هو فعل عنصري بالطبع"، يصرح محمد الكاشف، محامي مصري وباحث استشاري في سياسات الهجرة الأوروبية مقيم بألمانيا، مضيفًا لـ"الترا صوت"، أنه "حتى لو نشرت الشركة اعتذارًا وقالت إن الأمر كان يتعلق بمكتبها في الصين، فإن هذا الأمر بعيد عن الصحة، لأن ياسين كان قد قدم طلبًا للحصول على تدريب، بصفته طالبًا يحتاج هذا النوع من التمرين مع الشركات".

لم يمر سوى أسبوعين على حادثة المهندس المصري الشاب، حتى شدت حادثة أخرى مشابهة انتباه الرأي العام الألماني، والضحية هذه المرة هو لاندو جواو، شاب من أصول أفريقية، من مواليد كولونيا الألمانية، كان يبحث عن عمل قبل أن يعلم من صديق له عن حاجة فرع متجر DJ Sport العالمي بمدينته إلى بائع.

تقدم جواو للعمل، وقُبل طلبه أول الأمر، ثم دُعي للالتحاق بالمتجر من أجل فترة تدريبية، قبل أن يتفاجأ برسالة من موظف التشغيل في المتجر، يقول فيها: "السود يسرقون ويعكرون مناخ العمل ولا يندمجون في الفريق. لهذا لا نريدك بيننا". لم يكتفي المسؤول بهذه الكلمات، إذ ختم الرسالة بصورة متحركة لزعيم النازية أدولف هتلر.

بدوره، نشر جواو صورة للمحادثة التي دارت بينه وبين مسؤول DJ Sport على صفحته بفيسبوك، معلقًا: "عادة لا أفضل نشر الرسائل التي تردني على الخاص، لكنني لم أعد أحتمل هذه العنصرية". هذه الصورة التي خلقت زخمًا استنكاري لم يقل عن حادثة الشاب المصري بين رواد مواقع التواصل الاجتماعي، دفعت الشركة المذكورة للاعتراف بخطئها. لكن الاعتراف الذي نشرته DJ Sport على صفحتها بفيسبوك، وصف ما تعرض له الشاب الألماني الأفريقي بـ"الحادثة المهملة"، مكررة نفس مقولة الافتخار بـ"تعددية خلفيات موظفيها". 

"للأسف هذا يحدث في ألمانيا"

في معرضه حديثه لـ"الترا صوت"، يضعنا محمد الكاشف أمام صورة قاتمة للحياة في ألمانيا، تتكرر فيها أشكال التمييز العنصري. يقول الكاشف: "لو ركزنا على كل الأحداث والتصرفات التي تقع، سنجدها تميل دائمًا إلى العنصرية، حتى ضد المواطنين".

نفس الصورة أكدها سيندري بانغستاد، الأنثروبولجي النرويجي، الذي قال لـ"الترا صوت": "يوجد هناك تمييز عنصري في ميدان العمل يستهدف بالأخص العرب والترك والأقليات المسلمة الأخرى". واسترسل بانغستاد معبرًا عن شعوره إزاء هذا الوضع: "هذا حقًا أمر محزن، لكنه موجود في ألمانيا كما في النرويج وكل بلدان أوروبا".

من جانبها تقول أمل ياسف، ناشطة حقوقية من أصول جزائرية وعضو الشبكة الأوروبية لمناهضة العنصرية: "لست متفاجئة من وقوع مثل هذه الحوادث في أوروبا، لكن ما فاجأني هو وقوعها في ألمانيا التي تمتلك أقوى ترسانة قانونية ضد التمييز العنصري". وتضيف الناشطة في تصريحها لـ"الترا صوت": "في ألمانيا هناك قوانين صارمة، تضرب بيد من حديد على كل من سوّلت له نفسه تحديها، إذًا اقتيادُ هؤلاء الأشخاص إلى المحكمة سيمثل وسيلة ردع ويجعل منهم عبرة للآخرين".

وبلغة الأرقام، تشير تقارير الوكالة الفيدرالية الألمانية لمناهضة العنصرية، إلى أن معدل حالات التمييز العنصري في سوق العمل الألمانية يفوق كل المعدلات الأوروبية، إذ إن 9٪؜ من ذوي البشرة السمراء يعانون هذا النوع من التمييز في أوروبا مقابل 13٪؜ في ألمانيا وحدها.

كما تبين أن أصحاب الأسماء الأجنبية أقل حظًا بـ25٪؜ في الحصول على عمل من أولئك الذين يتوفرون على أسماء ألمانية، فيما 46٪؜ من العطلين عن العمل في ألمانيا هم من الأقليات و23٪؜ منهم مهاجرين.

سوق العمل في ظل التمييز العنصري

لا تقتصر العنصرية في أماكن العمل بأوروبا، على ألمانيا وحدها، ولا تأتي فقط بالشكل اللفظي المباشر كما في حالتي ياسين جبر ولاندو جواو، بل تأخذ عدة تمثلات أخرى، الهدف منها إقصاء الأقليات والمهاجرين، ودفعهم إلى الهوامش الاقتصادية والاجتماعية. ولاستيضاح الصورة، تواصلنا مع جورجينا سيكلوسي، الناشطة الحقوقية البلجيكية والناطقة الرسمية للشبكة الأوروبية لمناهضة العنصرية (ENAR).

"الأقليات الدينية والإثنية بأوروبا أقل حظًا في الولوج إلى عالم العمل"، تجيب جيورجينا، موضحة أنه "على سبيل المثال في بلجيكا، كشفت الإحصائيات أن الأشخاص ذوي الأسماء الأجنبية أقل حظًا بـ30% في تحصيل فرصة عمل، مقارنة بنفس الأشخاص الذين يحملون أسماء فلامانية. وفي هنغاريا واحد من كل اثنان من إثنية الروما يتعرضون للتمييز أثناء بحثهما عن العمل"، وبحسب المتحدثة، فإن هذا يفسر تفشي البطالة والهشاشة الاقتصادية والاجتماعية بين الأقليات الإثنية في أوروبا والمهاجرين.

كما لا تنتهي معاناة أفراد هذه الأقليات مع الحصول على العمل، فبعد ذلك تزداد أشكال التمييز ويضاف إليها: الاستغلال، وظروف الشغل الصعبة والخطيرة في بعض الأحيان، والفوارق الكبيرة في الرواتب، وعدم الأمان الوظيفي، فضلًا عن حوادث التحرش اللفظي والمادي المباشرة.

خريطة التمييز العنصري في ميدان العمل بأوروبا
خريطة التمييز العنصري في ميدان العمل بأوروبا

وتؤكد جورجينا سيكلوسي أنه "بحسب إحصائياتنا توجد أعلى نسبة أوروبية لحالات التمييز العنصري في مجال العمل بأيرلندا، حيث بلغت معدل 31%. وفي ألمانيا، أجور العمال ذوي البشرة السمراء أقل بـ25% من زملائهم الآخرين. وفي اليونان وإيطاليا، يشتغل المهاجرون في ظروف عمل لا إنسانية، بالأخص عمال الزراعة منهم".

صورة غير مكتملة

مع هذالا تشكر كل هذه المعطيات صورة كاملة للقضية اليوم، حيث يشوبها نقص أهم أسبابه هو غياب الإحصائيات الشاملة وتحديث الإحصائيات المتوفرة بشكل مستمر، وهو ما أشارت إليه جيورجينا سيكلوسي في حديثها، قائلة: "عدا بريطانيا، لا توجد إحصائيات رسمية دقيقة عن التمييز العنصري في مجال الشغل، وإن وجدت فهي لا تأتي بتصنيف دقيق بحسب هوية الأقليات، ويزيد اختلاف منهجيات عملها من صعوبة رصد صورة شاملة. كما لا تغطي الإحصائيات المتعلقة بالمهاجرين التمييز الذي تعانيه الأقليات المجنسة".

ولا ينفي هذا وجود جهود لمنظمات تعمل من أجل توفير قاعدة بيانات لهذا النوع من العنصرية، كتلك التي يقدمها مرصد التمييز التابع للوكالة الأوروبية للحقوق الأساسية (FRA). كما تنشر الشبكة الأوروبية لمناهضة التمييز العنصري تقاريرًا عن الوضع بشكل سنوي.

تقول جيورجينا: "لتخطي هذا الوضع، ما فتئت الشبكة تدعو لتعاون بين كافة الفاعلين في القضية لجمع معطيات إحصائية مقارنة، وإنشاء قاعدة بيانات شامل ترصد بالإرقام حالات التمييز العنصري عامة، وخاصة المتعلقة بحق العمل". 

الأقل حظًا

هذا النقص في الإحصائيات، يجعل من تصنيف دولة أوروبية على أساس تفشي هذه الظاهرة فيها أكثر من أخرى، أمرًا شبه مستحيل. ومع ذلك، تقول الناطقة الرسمية باسم "ENAR": "يمكن تحديد الأقليات الأكثر تضررًا من هذا التمييز، كالآتي: ذوي البشرة السمراء والغجر، واليد العاملة المهاجرة، والنساء، خصوصًا المسلمات منهن".

أما الأقل حظًا في ظل التمييز العنصري في العمل بأوروبا، فهن النساء العاملات المسلمات ومن أصول أفريقية، حيث يتعرض لتمييز مزدوج، الأول جندري والثاني عنصري على الهوية الدينية والعرقية، فضلًا عن التمييز الطبقي الاجتماعي. وهو واقع تسلط سيكلوسي الضوء عليه بقولها: "النساء من هذه الأقليات هن الأكثر عرضة للتمييز، الذي يكون أعنف مقارنة بما يتعرض له الرجال. بما في ذلك تعرضهن للاستغلال المادي والجنسي والتنمر والإهانة المستمرة، وحرمانهن من ولوج العديد من مجالات العمل رغم مؤهلاتهن المعرفية والتقنية".

وتضيف جيورجينا أنه: "في فرنسا، النساء من أصول أفريقية والمسلمات يحصلون على أدنى الأجور في سوق العمل. وفي قبرص أغلبية النساء المهاجرات العاملات في البيوت يشكلنا موضوعًا لأشكال عدة من التمييز واللامساواة والمعاملات القاسية، بما في ذلك الاستغلال الجنسي. كما 50% من حالات التمييز في أوروبا ضحاياها من النساء المسلمات".

ما هي جذور هذا التمييز العنصري؟

لا تقف القوانين ومواثيق الاتحاد الأوروبي، على صرامتها، رادعًا في وجه ظاهرة التمييز العنصري في ميدان العمل. هذا ما يضيف إلى الدور الأساسي للشبكة الأوروبية لمناهضة العنصرية، أي تحديد وضعية التمييز العنصري والدفاع عن ضحاياه، دورًا آخر يتمثل في التحسيس بهذه القوانين والعقوبات كعامل وقائي أمام الإقدام على خرقها.

"لكن هناك كذلك قوانين أوروبية تكرس هذا التمييز، كقوانين هجرة العمل في العديد من الدول الأوروبية على سبيل المثال"، تصرح جيورجينا سيكلوسي، مضيفة أن "هذا ما يحيلنا إلى واقع التمييز العنصري في أماكن العمل، بوصفه ظاهرة فردية وفي نفس الوقت هيكلية، كتأجيج الخطاب السياسي العنصري والقائم على التمييز بين الأعراق، ومساهمة القوى السياسية بتشريعاتها في خلق حالة اللامساواة داخل سوق الشغل".

هناك قوانين أوروبية تكرس العنصرية والتمييز في العمل، كقوانين هجرة العمل في العديد من الدول الأوروبية على سبيل المثال

وحسب المتحدثة فإن واقع تفشي البطالة في أوساط المهاجرين، وتحديد مجالات العمل المسموح لهم بها وحرمانهم من أخرى، وقوانين الهجرة التي تكرس هذه الوضعية؛ دليلٌ على وجود تمييز عنصري هيكلي تتحمل مسؤوليته الدول الأوروبية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أوروبا.. العنصرية ستسود

"مخيم" اللجوء الممنوع.. كيف تدعم أوروبا الاتجار بالبشر؟