31-مايو-2021

لوحة لـ دينا مطر/ فلسطين

عدت لأكتب لأن الكتابة نزيفٌ يسيل على وجه الذكرى لكي يولد بعد ذلك بنتٌ اسمها حكاية، أو ولدٌ اسمه نص. الكتابة ملتقى فارسَيْن، الورقة والقلم، يتأهبان ليحررا الكلمات من سجن الصمت، الكتابة عكس السجن وعكس السجن حرية. الكتابة خلع الكلمات رداء المنفى بالجلوس على السطر، كلّ سطرٍ وطن، وكل صفحة انتماء.

الكتابة أن تفرش جهازك العصبيّ على الورق. الكتابة شهوةٌ لا تضرم. هي صفقة معقودة.. قلمٌ بسعرٍ رخيص يسبر دهاليزك وهو ينزلق على الورق. الكتابة تكشّف هيكلك العظمي على وِسع الأبد. الكتابة تعرّي وتعرّي. الكتابة الكتابة.. رسمٌ هندسيٌ لحناجر الكلمات.. كل من يقرأ هذه الكلمات هو صاحب حنجرتها. الكتابة حكي، الكتابة شِعر الكتابة أغان الكتابة قراءة، الكتابة رسم.

الكتابة تخلق دماغًا للقلم، الكتابة تخلق ملامحَ للورق. والكتابة نجاة المرء من أن يموت متسممًا، وألا يكون لعقلهِ صوت.

اكتبوا ايها الناس، اكتبوا كلّما سقطت وردةٌ على وجه الرصيف، لا تقولوا ماتت وردة، بل قولوا ههنا وردةٌ تفسح مجالًا لبستان. اكتبوا حين يدّق عصفورٌ بمنقاره على زجاج النافذة، قولوا ههنا عصفورٌ يمارس فعل الوجود يتشارك مع الوقت صوته.. ويغني.

اكتبوا كلمّا سبحت سمكةٌ في البحر، لا تقولوا ها هنا سمكةٌ تسبح في البحر، بل قولوا ههنا سمكة تسبح بهوائها الذي هو ماؤنا، وهواؤنا الذي هو موتها الحتمي.

اكتبوا حين يولد طفلٌ جديد، ولا تقولوا اليوم ولد طفلٌ جديد، بل قولوا في هذه اللحظة، اللحظة التي ولد فيها طفلٌ جديد ثمّة شخصٌ في الزنزانة آلمه عاموده الفقري من دون أن يتحرك، قولوا الآن عبر مهاجرٌ الحدود وسقط عن الهويّة. قولوا في اللحظةِ نفسها، قال رجلٌ لامرأة: أحبّك، ورجلٌ آخر صفق باب الصدفة في وجه الحب ورحل، في نفس اللحظة التي ولد فيها طفلٌ جديد، ثمّة شخصٌ لم يتلق رسالة منتظرة، وشخصٌ آخر لذعت حرارة القبلة الأولى شفتاه. ثمّة شخصٌ في الطريق أعاد إلى السجّان مفتاحه الذي سقط منه سهوًا.

اكتبوا أنه حين ولد طفلٌ جديد. حدث في تلك اللحظةِ أشياءٌ كثيرة. أغلبها حدث على سبيل الصدفةِ والمزاح.

عدتّ لأكتب، لأن الكتابة هي الدفاع عن الوجود أمام ثعلبة الفناء، لا فناء مع الكتابة. الكتابة سهولة الصعوبة، وصعوبة السهولة، الكتابة خريطة الأزمان، موت الجلّاد الكتابة. وانتصار الضحايا الكتابة.

الكتابة لومٌ دائم وتمرد. الكتابة ضجيجٌ لا يسعد بهِ الفناء لأنّه يلغيه.

عدتّ لأكتب، والذي أعادني ليست شهوة البعيد لغرس السيف في وجه الغربة الماكر، ولا خوفي من الليل المضاعف حيث أنا، إنما أعادتني الحكايا إلى هذا السرداب الطويل. والذي تعيده الحكايا، يبقى حيث الحكايا، لماذا؟ لأنّ الحكايات لا تنتهي أبدًا.

الكتابة مسرحٌ لتمثيل الجريمة والكتابة محكمة وقضاة، الكتابة إعادة صياغة اللحظة بألف طريقة، الكتابة هي الكتابة. الكتابة عذبة عذبة عذبة، الكتابة قبلة على ورقة طائرة ورقيّة تتسلّى في سماء الأبد، الكتابة حياة الحياة، خلود الحياة، عاصفة تلفح وجه الصمت، الكتابة مطرقة تحملها يدٌ، تظلّ تطرق وتطرقٌ حتّى يفنى الطغاة. الكتابة سرير الأبد، ونومٌ هانئٌ الكتابة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

نحاربهم أيضًا بالأغاني والهاشتاغ

صوت الزلزلة