09-يونيو-2020

تحولت صرخة جورج فلويد إلى استعارة احتجاجية (Getty)

لربّما كان واحد من أبرز التعقيبات اللافتة التي وردت على الموجة الاحتجاجية الأخيرة التي جابت وما زالت تجوب شوارع الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك بعد حادثة مقتل المواطن الأمريكي من أصل أفريقي جورج فلويد، كان تعقيب المفكّر عزمي بشارة الذي كتب معلّقًا على الحادثة عبارات يقول فيها: "ليس صدفة أن حشرجة جورج فلويد الأخيرة، "لا استطيع التنفس" تحولت إلى مجاز، واستعارة رائجة. فهي تلخص وتكثف شعور كثيرين في بلدان عديدة بالاختناق، إما لأنّ الدولة البوليسية تدوس على رقابهم، أو لأن ضيق سبل العيش يطبق على أنفاسهم، أو لأنّ إصرار العنصرية أن تفرض دونية عليهم يشعرهم بالاختناق".

"لا أستطيع التنفُّس" هيَ صرخة كان يُمكنها أن تمرّ دون تركيز أو التقاط، لولا أنّ النشطاء الذين تداولوها عملوا على إضفاء المعاني عليها وتداولوها كعبارة ذات دلالة استعارية متجاوزة للسياق الفردي

واللافت في تعقيب بشارة السابق هو تطرّقه إلى مسألة المجاز واللغة الاستعارية كضرورة ثورية، أو كعامل مهم من عوامل قيام الثورات والحركات الاحتجاجية، فالمتأمّل في عبارات بشارة السابقة لا بدّ أن يستبطن ما تحتويه تلك العبارات من إشارة واضحة إلى أهمية المجاز واللغة الاستعارية في توليد معانٍ جديدة لعبارات ترد في سياقات حوادث مخصوصة، بحيث تكون السياقات التي وردت فيها تلك العبارات كفيلة بتحويلها من عبارات عادية إلى عبارات شعاراتية تُستخدم كوسيلة لتعبئة الجماهير والدفع بهم نحو طرق الثورة والاحتجاج.

اقرأ/ي أيضًا: جورج فلويد: تذكير بما ننساقُ لنسيانهِ

وتبعًا لذلك، فيُمكن القول بأنّ اللغة الاستعارية هنا تدخل لتكون إحدى الآليات التي تُستخدم ضمن أطروحة مرتبطة بالحركات الاجتماعيّة والعمل الجماعيّ وهي أطروحة تُدعى أطروحة "التأطير"، حيثُ تفترض تلك الأطروحة أنّ المحرّك الأوّل الذي يدفع الجماهير إلى الاحتجاج هو "إضفاء المعنى"؛ أي إضافة معنًى للأحداث، الأمر الذي يسمح بتعبئة المزيد من المؤيدين للفعل الاحتجاجيّ، ويقود نحو إضعاف المعارضين لهذا الفعل، وهو ما يُضعف من قدرتهم على صناعة الفعل المضادّ؛ فأطروحة "التأطير" ترتبط بشكل أساسيّ بمدى القدرة على خلق المعاني المعبِّئة للجماهير.

وبالعودة إلى حادثة مقتل جورج فلويد فإنّ قراءة الحادثة في ضوء أطروحة "التأطير" تُمكّننا من القول بأنّ الصرخة الأخيرة التي أطلقها جورج فلويد قائلاً: "لا أستطيع التنفُّس" هيَ صرخة كان يُمكنها أن تمرّ دون تركيز أو التقاط، لولا أنّ النشطاء الذين تداولوها عملوا على إضفاء المعاني عليها وتداولوها كعبارة ذات دلالة استعارية متجاوزة للسياق الفردي الذي وردت فيه، فقد عمل النشطاء الذين تناقلوا العبارة إلى تحويلها من عبارة تحمل دلالة فردية حول شعور فرد (من أصل أفريقي) بالاختناق وضيق تنفّس جراء ممارسة عنصرية ضدّه من قبل الشرطيّ الذي كان يجثو على رقبته، إلى عبارة تحمل دلالة جماعية حول شعور جماعة عرقية كاملة (ذوي الأصول الأفريقية) بالاختناق وضيق التنفّس جراء الممارسات العنصرية التي تُلاقيها من قبل أجهزة الشرطة وغيرها من المنظومات والقوانين السائدة في النظام الرسمي للدولة، والتي لا تأتي إلا بما يُكرّس العنصرية ضدّ هذه الجماعة.  

إنّ استخدام الحركة الاحتجاجية الحالية في الولايات المتحدة الأمريكية لأطروحة "التأطير" في تحريض وتعبئة الجماهير ضدّ العنصرية وممارساتها، تأتي لتُذكّرنا بالعديد من الحوادث والمشهديات التي حدثت في العالم العربي وكانت سببًا في قيام حركات احتجاجية بل ونشوب موجات ثورية، ولعلّ أبرز تلك الحوادث حدث انتحار البوعزيزي في تونس التي عمل نشطاء الحركات الاحتجاجية على تحويله إلى إطار معبّئ للجماهير آنذاك، حيثُ إنّهم عملوا على إضفاء المعاني على الحدث بشكل جعل منه إطاراً لتعبئة المحايدين ودفعهم نحو الانضواء في صفوف الثورة، فكلّ الذين استحضروا صورة البوعزيزي محروقًا لم يجدوا فيها سوى صرخة يائسة أتت في شكل إحراق الذات لتُعلن عن نوع من الغضب الموجه ضدّ الظلم والرافض للعيش تحت وطأته. وهكذا، عمل نشطاء الحركات الاحتجاجية على استثمار الظلم الذي يشعر به الكثير من الشباب من أبناء جيل البوعزيزي، عبر تصدير فعل إحراق النفس -ممثلاً بصورة البوعزيزي- واستخدامه لتعبئة الجماهير بمشاعر السخط والغضب على الظلم عبر دعوتهم إلى التفاعل مع هذه الصرخة اليائسة، والتوجه نحو الوقوف في وجه الظلم عن طريق خيار جماعي يثورون به عليه عوضًا عن العزلة الفردية والعجز الفردي الذي يكون مؤداه إما الخنوع أو إحراق الذات.

وسواء تعلّق الأمر بحادث مقتل جورج فلويد أو حادث انتحار البوعزيزي أو غيرهما من الحوادث الأخرى التي أتت في سياقات وأزمنة أخرى وعملت الحركات الاحتجاجية على تلقفها وتحويلها إلى أطر توليد المعاني وتعبئة للجماهير، فإنّ هذا كلّه يأتي بما يُدلّل على أنّ الإنسان هو كائن رمزي ثقافي بامتياز، وأنّه مهما اختلفت أزمنته وأمكنته فإنّه يسير في نفس الطرق التي يُحاول فيها دائمًا اكتشاف المعاني وتوليدها.