12-يناير-2020

من مظاهرات أمريكية مناهضة للحرب مع إيران (EPA)

إعداد: سفيان البالي ومها عمر

يحل شبح الحرب الذي خرج من قمقمه مع اغتيال قائد فيلق القدس، الجنرال قاسم سليماني، على الشعب الإيراني وهو في قمة ثورته ضد النظام القائم، قالبًا أوراق انتفاضته التي دفع ثمنًا لها 340 قتيلًا على الأقل وأكثر من سبعة آلاف معتقل.

عاد الغضب للشارع الإيراني بعد حادث استهداف الطائرة الأوكرانية "بالخطأ" أثناء فقرة الرد العسكري على مقتل سليماني

هدأت ساحة الثورة الإيرانية ردحًا من الزمن، فاسحة المجال لحمى انتقام كان النظام يظن بقدرتها على إخماد الاحتجاج، أو على الأقل تصدير صورة "الشرعية الشعبية" المفترضة. 

اقرأ/ي أيضًا: "ظننا أنها صاروخ كروز".. غضب في الشارع الإيراني بعد إسقاط الطائرة الأوكرانية

لكن انقلب السحر على الساحر، فعاد الغضب للشارع على إثر حادث استهداف الطائرة الأوكرانية "بالخطأ"، أثناء فقرة الرد العسكري على مقتل سليماني. وإلى لحظة كتابة هذه السطور، لا تزال شوارع طهران تغلي باحتجاجات تنادي بـ"موت خامنئي"، وصور سليماني التي عُلقت حدادًا عليه، تداس وتحرق. بينما الحرب التي ارتُقبت مطوّلًا، أصبحت الآن أبعد مما كانت عليه الأسبوع الماضي، بل ووجدت أخيرًا الأصوات الرافضة لها منذ البداية متنفسًا للتعبير عن موقفها.

وفي الولايات المتحدة الأمريكية، وضع النشطاء ضد الحرب كل آمالهم في أن يوقفوا الحرب قبل أن تبدأ. لكن التاريخ يُظهر أن هذا نادرًا ما حدث، فعلى سبيل المثال، كان أعظم فشل للتحركات الشعبية ضد الحرب ما حدث في الحرب العالمية الأولى، فرغم التعهدات العديدة بمعارضة الحرب بين القوى الأوروبية العظمى، تخلت الأحزاب الاشتراكية والعمالية في بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وروسيا القيصرية والإمبراطورية النمساوية المجرية، عن رفاقها، وتعهدت بالولاء لحكوماتها، وسط حماسة كبيرة وتصاعد حاد للاستقطاب، حينئذ كان الاستثناءان المهمان بين الدول المتحاربة، هما الحزب الاشتراكي الأمريكي والبلاشفة.

واستغرق الأمر عامين من حرب الخنادق الدموية والإبادة الجماعية قبل أن يُستأنف الحراك الشعبي المناهض للحرب. وانتهت الحرب بثورات الطبقة العاملة في روسيا وألمانيا، إلى جانب اضطرابات الطبقة العاملة في جميع أنحاء أوروبا.

وفي الولايات المتحدة، كانت أهم حركة مناهضة للحرب في القرن الـ20، هي الحركة التي أنهت الحرب الأمريكية ضد فيتنام. قبل ذلك، خرجت الولايات المتحدة من الحرب العالمية الثانية كأقوى دولة رأسمالية في العالم، لم تتضرر فعليًا من الحرب مقارنة بالبلدان المتحاربة.

مظاهرات أمريكية مناهضة للحرب ضد إيران
من مظاهرة أمريكية مناهضة للحرب ضد إيران

وخلال حقبة ما قبل حرب فيتنام، اقتصرت معاداة الحرب على هامش صغير من دعاة السلام. وما حول هذه الحركة الهامشية إلى حركة جماهيرية جذرية تضم الملايين، كان مزيجًا من ثلاثة عوامل سياسية، بحسب ما جاء في كتاب جو آلآن "فيتنام.. آخر حرب تخسرها الولايات المتحدة"، وهي: 

  1. حركة تحرر ذوي الأصول الأفريقية في الولايات المتحدة.
  2. الصراع الفيتنامي من أجل التحرر الوطني.
  3. انهيار الجيش الأمريكي.

أنتجت هذه البيئة السياسية أكبر حركة جماهيرية في تاريخ الولايات المتحدة، وكانت عاملًا رئيسيًا في إجبار الولايات المتحدة على الانسحاب من فيتنام. واليوم تتجدد دعوات أخرى تواجه إدارة ترامب التي توصف أحيانًا بالمتهورة.

لا أحد يريد الحرب.. ضد الميراث الثقيل

على امتداد أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية، تنهال الدعوات إلى أكثر من 200 مسيرة تحت شعار "لا للحرب على إيران". وهذه المظاهرات وإن كانت صغيرة الحجم بالنسبة لبلد كبير، إلا أنها جاءت معبرة عن ميراث الحرب الثقيل الذي يحمله الأمريكيون تجاه ما بات بعضهم على وعي به، وهو: "إن الأمر سيؤذي عائلات المجندين وحتى العائلات التي تعيش في الشرق الأوسط".

ولا تفرق أصوات المتظاهرين ضد الحرب في الولايات المتحدة بين الجمهوريين والديمقراطيين، لعلمهم باشتراك قادة الحزبين في التورط في الحرب والإبقاء على القوات الأمريكية في الشرق الأوسط، كما في عهد أوباما الديمقراطي، كذلك في عهد ترامب الجمهوري.

ميريديث آبي، من لجنة مناهضة الحرب، قالت في تصريح صحفي إنها تشعر بالإحباط من المسؤولين المنتخبين الجمهوريين والديمقراطيين، الذين فشلوا في الوفاء بوعودهم بإعادة القوات الأمريكية من الشرق الأوسط. 

وأضافت آبي: "لدينا مشاكل حقيقية هنا في الداخل، ويجب أن ننفق هذه الموارد على التعامل مع ظاهرة التشرد وتغير المناخ والتعليم في هذا البلد. لكننا بدلًا من ذلك، ننفق مليارات الدولارات على  تصعيد الحرب في الشرق الأوسط. نحن بحاجة إلى سحب هذه القوات إلى الوطن، وإنفاق هذه الأموال على الاحتياجات الإنسانية وليس في الحرب".

الحرب ليست خيارًا

منذ موافقة ترامب على غارة جوية بطائرة بدون طيار أسفرت عن مقتل قاسم سليماني ونائب رئيس الحشد الشعبي العراقي أبو مهدي المهندس، ثم رد إيران بإطلاق 10 صواريخ على قاعدة عين الأسد في العراق؛ تعامل كبار المتنافسين في الحزب الديمقراطي مع القضية برمتها كجسر للعبور إلى الناخبين.

وفي خطاب متلفز، يوم الأربعاء الماضي، الثامن من كانون الثاني/يناير 2010، تراجع ترامب عن التصعيد مع إيران، واختار بدلًا من ذلك فرض عقوبات جديدة على طهران، ردًا على ضرباتها الانتقامية. لكن خطابه لم يفعل الكثير لتهدئة رد الفعل السياسي المتصاعد في واشنطن ضد الحرب، ما قد يعني استمرار تصدر النقاش المعارض للحرب للواجهة السياسية.

وبقراءة أولية للواقع الاجتماعي والاقتصادي الأمريكي، يمكن القول إن السياسة الخارجية للولايات المتحدة، لم تكن ضمن الأولويات الجوهرية للناخب الأمريكي، في مقابل السياسات والقضايا الداخلية التي تمسه بشكل مباشر. لكن التوترات الدولية المتصاعدة، أعادت توجيه النقاش السياسي. 

وأحد الذين أعادوا النقاش للواجهة هو جون بايدن، المرشح الديمقراطي، الذي تحدث خلال حملته الانتخابية الأسبوع الماضي، عن سجله الطويل في الشؤون الخارجية ومكانته على الساحة العالمية.

لكن في حين يعرض بايدن تجربته باعتبارها نموذجًا في رفض الحرب، يبقى أهم منافسيه الذين هاجموا فكرة الحرب، هو بيرني ساندرز، الذي يُذكَر له تصويته ضد غزو العراق في 2003.

في هذا السياق، قال ساندرز في تصريح صحفي: "لقد صوت جو بايدن لصالح الحرب على العراق، وهي أكثر الأخطاء تكلفة في السياسة الخارجية في التاريخ الحديث لهذا البلد"، مضيفًا: "لا أعتقد أن هذا النوع من المواقف سيؤدي إلى توليد الجهود التي نحتاجها لهزيمة ترامب".

وبالجملة، فلدى ساندرز تاريخ طويل من رفض الحرب، منذ حرب فيتنام وحتى الآن، مرورًا بالغزو الأمريكي للعراق. وهو الأمر الذي حاولت وسائل إعلام تحميله على ساندرز وكأنه شيء قد يرغب في الاعتذار عنه. لكنه في المقابل كان واضحًا في وصف تلك الحروب بـ"المغامرات العسكرية الكارثية"، وبأنه سيستمر في الوقوف ضد مثيلاتها في المستقبل.

وعندما سئل ساندرز عمّا إذا كان يعتقد أن ترامب ارتكب جريمة حرب بقتل سليماني، في محاولة إعلامية لتوريطه، أجاب ساندرز بأن "قتل كبار المسؤولين في حكومة أجنبية يرسل رسالة إلى البلدان في جميع أنحاء العالم، مفادها أن الولايات المتحدة يمكن أن تفعل شيئًا مماثلًا مرة أخرى".

ومرة أخرى أضاف ساندرز بأن "البلاد في حالة إعياء من الحروب التي لا معنى لها، وأن هذه التريليونات يجب أن تُصرف على إعادة هيكلة البنية التحتية، وإصلاح النظام الصحي، والتعامل مع مشكلة تغير المناخ والاستثمار، ومصادر الطاقة".

يكسب ساندرز كلاعب أصيل في معارضته للحرب، نقاطًا إضافية في السباق الرئاسي في ظل هذا الزخم ضد الحرب، إلا أن أكبر المكاسب التي كان يحتاجها المجتمع الأمريكي، هو إعادة الضغط للفت نظر الإدارة لمشاكل الداخل بدلًا من التورط في مشاكل بالخارج.

الحرب في إيران أداة لإخماد الاحتجاج

على الجانب الإيراني، يمكن القول إن سياسة استعراض العضلات التي اعتاد النظام انتهاجها، لقيت فرصة سانحة للتوظيف، وذلك عقب اغتيال أقوى رجال النظام الإيراني، وخروج ملايين الإيرانيين لتشييعه، ليخلقوا الدعاية اللازمة لـ"شرعية" النظام.

هذه هي الصورة التي تكرس لها إيران. غير أنه على أرض الواقع، يسارع النظام الإيراني لاحتواء أزمة الاحتجاجات المتكررة منذ سنوات، آخرها الاحتجاجات الحالية التي هي امتداد لاحتجاجات اندلعت في تشرين الثاني/نوفمبر 2019، واجهتها قوات الأمن بقمع قالت منظمة العفو الدولية إنه أفضى إلى مقتل 340 شخصًا واعتقال سبعة آلاف آخرين.

لوحة للرسامة الإيرانية مرجان ساترابي للتعبير عن رفض الحرب والدعوة للتقارب بين الشعوب

 "نظام الجمهورية الإسلامية الفاشي يخادع في حديثه عن الانتقام الكبير"، تصرح الناشطة السياسية الإيرانية نجين بانك، في حديثها لـ"الترا صوت"، مضيفة أن "صواريخه المزيفة، وتنسيقه مع أمريكا قبل الضربة، ليس إلا موقف جبان من نظام يرتعد تحت وطأة الانتفاضة الشعبية. وبهذا فالولايات المتحدة كذلك متعاونة مع النظام الإيراني، وعلى صف واحد معه ضد الكادحين".

ماذا عن الأصوات المناهضة للحرب في إيران؟ تجيب نجين بانك: "هناك قطاعات كبيرة من الشعب ضد الحرب، وهم نفسهم الذين انتفضوا في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي ضد النظام، فواجههم بالمجازر"، موضحة أن "الشعب الإيراني رأى أثر هذه الحروب على الشعوب الجارة، ويعي أن مناهضة الحرب جزء من قضيته الكبرى ضد الطبقة الحاكمة".

تمثل نجين بانك آلاف المحتجين الذين هتفوا، ضمن ما هتفوا، ضد التدخلات الإيرانية في المنطقة، مطالبين بالتركيز في الشأن الإيراني الداخلي وحقوق المواطنين. ومعها في ذلك علي فاعل، الحقوقي الإيراني، الذي صرح لـ"الترا صوت" بأن "معارضتنا للحرب لا تعني وقوفنا إلى جانب طرف ضد الآخر، بل نحن نقف على الجانب المعارض لكل الأطراف: أمريكا والنظام الإيراني".

ويضيف علي فاعل: "هذه الحرب هي إضافة لدمار آخر كالذي لحق بالعراق وسوريا، وإجهاض للفرصة التاريخية لإسقاط نظام الملالي بيد الجماهير الشعبية التي تطالب بحقوقها الآن"، معتبرًا أنه "لا يمكن تفسير تصرف السلطة الإيرانية إزاء مقتل سليماني، وجرّها جحافل المواطنين البسطاء إلى الشارع، وفي حالات عدة رغمًا عنهم، لتشييع جنازته؛ إلا كمحاولة طمس للغليان التي تعرفه البلاد منذ شهور".

وتأكيدًا على تأجيج افتعال الحرب للشارع الإيراني الذي خرج محتجًا منذ شهور، قال أرمان، وهو نقابي إيراني، إن "هذه الحرب لا يمكن أن تكون إلا تأبيدًا لواقع القمع والتفقير الذي يعرفه الإيرانيون". 

وأضاف أرمان لـ"الترا صوت": "كما عودنا نظام الجمهورية الإسلامية، كلما انتفض الشارع بالاحتجاجات، لجأ إلى العدو الخارجي لإرهاب الشعب. والحقيقة أن القوى الإمبريالية لا ترهبها أنظمة الاستبداد بقدر ما ترهبها الثورات الشعبية".

ناشط إيراني: كما عودنا نظام الجمهورية الإسلامية، كلما انتفض الشارع بالاحتجاجات، لجأ إلى العدو الخارجي لإرهاب الشعب

ويسترسل أرمان: "على مدار 40 عامًا كانت أمريكا وإيران في حرب باردة. إذًا ما الذي استجد لكي يقرر الطرفان في هذه اللحظة بالذات حسم الحرب؟"، مجيبًا بنفسه: "انتفاضة الشعب الإيراني هي هذا المستجد، وهي نقطة التمفصل التي عرفتها الأحداث".

 

اقرأ/ي أيضًا:

ما وراء "التسوية الضمنية" بين طهران وواشنطن.. هل انتهى التصعيد؟

أين اختفت حركات مناهضة الحرب في الولايات المتحدة؟